متابعة المدى
نظراً إلى دخله المحدود، اضطر علي صاحب (53 عاماً) إلى السكن بجوار موقع لحرق النفايات في إحدى ضواحي العاصمة العراقية بغداد، ثم بدأت المشكلات الصحية تتوالى على أفراد عائلته. دفعه هذا إلى التفكير جدياً في تغيير سكنه، لكن أنّى له ذلك مع ضيق ذات اليد. وصاحب أب لثلاثة أولاد، ويتحرّق فؤاده وهو يرى فلذات كبده يعانون أضراراً صحية تأثراً بحرق النفايات الذي يكاد يحدث يومياً. لكنه يقف مكتوف اليدين، لا يقوى على شيء.
وأصيب الابن الأصغر ذو الأحد عشر عاماً بالربو، فيما يعاني أخواه مشكلات تنفسية أخرى. وقال صاحب: "طلبنا من الحكومات المتعاقبة ومن (أمانة بغداد) إيجاد حلول لنا نحن الساكنين بالقرب من هذه الأماكن، والنظر في عمليات الحرق هذه، لكننا لم نجد آذاناً صاغية". ويتابع؛ وهو يشير إلى سحابة سوداء بدأت تتصاعد خلفه: "عمليات الحرق غير النظامية تؤثر على عملنا وليس على الجانب الصحي فقط. لا يمكننا ممارسة أعمالنا بصورة طبيعية، وفي أغلب الأحيان ننتظر انخفاض حدة الأدخنة المتصاعدة حتى نبدأ العمل".
انتشرت ظاهرة حرق النفايات في العاصمة، وغالباً ما ترتفع غمامة سوداء تغطي سماء المنطقة، مع انبعاث روائح كريهة، تستمر في بعض الأحيان ساعات طويلة.
وطُرحت مشروعات كثيرة لمعالجة النفايات عبر إنشاء معامل لإعادة تدويرها وتحويلها إلى مواد صالحة للاستخدام، مثل الأسمدة، أو فرز المواد الصلبة منها، لكن هذه المشروعات لم تتحقق على أرض الواقع.
في قضاء الزوراء ومنطقة المعامل شرقي العاصمة العراقية، تُحرق يومياً عشرات الأطنان من النفايات. تتصاعد أعمدة الدخان في محلتي العماري والباوية، بعد أن يشعل «النبّاشون» النار فيها.
والنباشون هم من يشترون النفايات من أصحاب «الكابسات» أو «المكبّات» الأهلية والحكومية، ينقّبون فيها عمّا يمكن أن يلزمهم ويحرقون المتبقي. ويقول علي الساعدي (22 عاماً) الذي يقطن المنطقة: "يُفترض على (الكابسات) أن تأخذ النفايات إلى مناطق الطمر الصحي في منطقة النهروان، إلا أنها تبيعها إلى النبّاشين بمبالغ مالية، وهؤلاء يستخرجون منها مواد يستخدمونها علفاً للحيوانات، وكذلك المعادن التي تباع لمحال السكراب (الخردة)، مثل الحديد والنحاس، ثم يحرقون المتبقي من النفايات يومياً في المساء".
ويكمل: "الأهالي الذين يعيشون بالقرب من أماكن الحرق يعانون أمراضاً كثيرة، وحالات اختناق مستمرة. وأطفالنا ينامون الليل بصعوبة". وطالب الحكومة بمنع رمي النفايات في المناطق السكنية ومعاقبة كل من يقوم بعمليات الحرق فيها.
كان مجلس محافظة بغداد قد صوّت في 6 أغسطس (آب) 2015 على تحويل منطقة المعامل إلى قضاء الزوراء، وهي منطقة كانت تضم أكبر مجمّع للمعامل شرق العاصمة العراقية قبل الغزو الأميركي في 2003. لكن هذا توقف، وأضحت المنطقة من كبرى المناطق السكنية المتاخمة لمحافظة ديالى.
وأعلنت وزارة البيئة في أكتوبر (تشرين الأول) 2022 عن توجه حكومي لتشريع قانون جديد لمعالجة المخلفات الصلبة، بهدف إنتاج الطاقة الكهربائية واستثمار غاز الميثان.
ويقول حسين أحمد (27 عاماً)، الذي يسكن منطقة شرق القناة في بغداد، إن "طمر النفايات وحرقها بشكل دوري ومستمر، سبب لنا كثيراً من الأمراض المؤقتة أو تلك المزمنة والمميتة كالسرطان".
ويضيف: «تتحول مناطقنا خلال عمليات الحرق إلى بؤرة سامة وخانقة، لا يمكن التنفس فيها»، لافتاً إلى أن المصابين بالربو ومشكلات الجهاز التنفسي وبعض الأمراض الأخرى لا يمكنهم الخروج إلى أن تنخفض نسبة الدخان. ويتابع قائلاً: "في أحيان كثيرة تحدث لدينا حالات اختناق، مما يضطرنا إلى نقلهم إلى مستشفيات قريبة لتلقي الأوكسجين، بسبب كميات الدخان الكبيرة وما تحمله من غازات وسموم".
تترك الانبعاثات التي تُخلّفها عمليات الحرق غير النظامي آثاراً وخيمة على الصحة. ويقول الطبيب باسم هنو إن أبرز الأمراض التي تترتب على استنشاق الدخان والغازات هي الربو، إضافة إلى حساسية الأنف والقصبات الهوائية وحساسية العيون والجلد. ويضيف هنو، المختص في الأمراض الصدرية، أن هناك أمراضاً أخرى مميتة، مثل سرطان الرئة وسرطان الدم، إضافة إلى الأمراض الجلدية؛ وأبرزها الإكزيما التي قال إنها بدأت تزداد بشكل ملحوظ في هذه المناطق. كانت وزارة البيئة قد ذكرت أن كل مواطن يتسبب في ما يتراوح بين 1.0 و1.25 كيلوغرام من المخلفات في عموم العراق، وأن العاصمة بغداد تفرز من 8 إلى 10 آلاف طن من المخلفات يومياً، أكثر من 40 في المائة منها نفايات عضوية، أي بقايا الطعام. لكن المتحدث باسم وزارة البيئة، أمير علي الحسون، يرمي الكرة في ملعب الأهالي، ويقول إن حرق النفايات "في الأغلب سلوك لدى الأهالي ما دام يحدث في بعض الأحياء السكنية التي تُجمع فيها النفايات".
ويضيف: "نحن؛ وزارة البيئة، نرى أن هذه السلوكيات غير صحيحة ومرفوضة، وعلاجها الأهم هو تنمية الوعي على مستوى المنطقة التي تجري فيها عمليات الحرق. هذا التصرف يضر بالبيئة وبصحة المواطنين".
وهو يرى أن الحل يكمن في التوعية، "وهنا يأتي دور الناشطين ووسائل الإعلام والمنظمات التثقيفية والتربوية والمجتمع المدني من أجل خلق مشروع وطني للتوعية بالمفاهيم البيئية غير الصحيحة والتي منها الحرق أو الجزر العشوائي وغيرها من هذه المظاهر الملوثة للبيئة".
من جانبه أكد المتحدث باسم «أمانة بغداد»، محمد الربيعي، في أبريل (نيسان) الماضي، أن قضية الحد من رمي النفايات في غير الأماكن المخصصة لها، موجودة بالفعل ضمن القوانين النافذة، ولكن المشكلة تكمن في تطبيق مواد القانون، "فهو يحتاج لمليوني كاميرا في بغداد لرصد ومعاقبة المتجاوزين".
فيما يوضح الخبير البيئي ومدير «برنامج العدالة البيئية وأمن المناخ»، فلاح الأميري، أن حرق النفايات أمر طبيعي بالنسبة إلى بلد مثل العراق لا يمتلك أدوات حديثة لتدوير النفايات أو الاستفادة منها اقتصادياً، إضافة إلى عدم تخصيص أماكن للطمر الصحي.
وأضاف "أغلب المحطات الوسطية للنفايات داخل المدن، وهو ما تسبب بمشكلات كثيرة كالإفرازات والروائح الكريهة التي تصاحب عمليات الحرق، فهي مؤثرة بشكل مباشر ووفق نوع النفايات".
وقال إن حرق البلاستيك أو الإطارات والمواد المشابهة يطلق نسباً عالية من الكربون الملوّث للهواء، ومن ثم تتأثر صحة الساكنين بالقرب من هذه المحطات.