TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > مقاطع من سيرة

مقاطع من سيرة

نشر في: 20 يونيو, 2023: 10:48 م

مدرسة على حافة المقبرة

زهير الجزائري

في سن الدراسة انقسمنا نحن الصغار من أقاربنا. الفقراء المطيعون لمراجعهم لم يرسلوا أولادهم للمدارس الحكومية التي تحشوا رؤوسهم بعلوم الشيطان، إنما للملالي المنتشرين في الجوامع وأروقة الصحن.…بينما ذهبنا، نحن ابناء الأفندية الى المدارس الحكومية. ثقافة الاستظهار الدينية تركت بصمتها عميقاً على الثقافة العلمانية في المدارس وفي السياسة اللاحقة.

والدي الذي صار معاوناً لمدير المدرسة الحيدرية لا يريدني أن أدرس في مدرسته. تجربته تقول له أن الغرور يفسد الطالب حين يكون والده صاحب سلطة فيها. لذلك أخذني بنفسه في أوائل الخمسينات الى مدير مدرسة السلام الابتدائية (رؤوف الجواهري):

-كأنك لا تعرف ابن من هذا…

بوجهه الحازم تفحصني المدير فتقلصت في مقعدي:

-أعرف مهنتي!

قالها وهو يداعب خيزرانته بأطراف أصابعه.

تقع المدرسة على حافة المقبرة. بعض القبور وقد أزيلت شواهدها دخلت الى ساحة اللعب. ونحن نلعب الكرة نكتشف بين آونة وأخرى جمجمة أو بقايا يد. نتفحصها قليلاً ثم نرميها خارج السور دون أن نفكر طويلا بهوية صاحبها. الموت المجرد يلغي تفاصيل الموتى كأفراد. حين آتي متأخراً يعاقبني المعلم فيجلسني على دكة الشباك. تزوغ عيناى عن الكلمات على الصبورة وعن صوت المعلم الحازم و تعلق بمشهد المقبرة..هذا الأفق الممتد حتى النهايات من قبور تتجه شواهدها نحو القبلة التي لا تراها عيني وتفلت باتساعها من خيالي.

تقع المدرسة وسط ثلاثة حروب:

الحرب التي تندلع بين فترة وأخرى بين بين (البو عامر) و (ألبو كلل). يبدأ القتال برصاصات ساخطة فيهبُّ ابناء العشيرتين في المدرسة، بينهم أبناء صف واحد، ليلتحقوا بجبهات القتال المتداخلة. تكرار القتال علمّ الطرفين أهميّة السطوح العالية و منائر الجوامع للتسلط على الخصم. نبقى نحن أبناء القبائل المسالمة نرتجف مقلصين أجسادنا المحشورة تحت الرحلات حتى يهدأ القتال موقتاً بوساطة رجال الدين ثم يندلع ثانية ثأراً او صراعاً على طرق التهريب.

الحرب الثانية بالمقاليع بدلاً من البنادق بين محلتي (العمارة) و (المشراق). يعبر المتحاربون أسيجة المدارس الخلفية في فترة الظهيرة ليمارسوا لعبة الكرّ و الفرّ بين القبور وقد تحولت إلى خنادق للاحتماء، و يسددوا بالمقاليع الحجارة نحو خصومهم. شاركت في هذه الحرب مرة واحده ثم انسحبت حين صفر الحجر قرب أذني. تستغرق جولة الحرب هذه ساعة أو أكثر حتى تتدخل سيارات الشرطة.

الحرب الثالثة بين الدشداشة والبنطلون. قرار ملكي فرض علينا البنطلون كزي موحد لمدارس الحكومة. المؤسسة الدينية رأت في ذلك تغريباً للجيل الصاعد وتقليداً للكفار. نغادر المدرسة، نحن الافندية الصغار في نهاية الدوام، فتستقبلنا كمائن تخرج من الأزقة الضيقة بهتافات تسمينا (أفنطيزي) بالشتائم و البعابيص.

الحرب الرابعة لم تحدث بعد، تدور في خيالنا وفي زمن يسبق ظهور (المهدي): يخرج الموتى من قبورهم وينفضوا عنهم التراب ويزحفون على الأحياء. الصورة ترعبني كلما رأيت من نافذة الصف الامتداد اللانهائي للمقبرة والسؤال المرعب الجاهز في داخلي: متى؟

المعلم و الخيزرانة

علاقتنا بمعلمينا تبدأ بالخوف وتتحول الى مهابة ثم تنتهي بالحب.. نتباهى و نتراهن مع طلاب الصفوف الأخرى على المعلّم الأقسى في عقابه و على الخيزرانة التي تنزل في لحم اليد. مرتين عوقبت بالوقوف على قدم واحدة أمام طلبة الصف. حين حاولت مراوغة المعلم (كاظم الخرسان) صرخ الطلبة منبهين المعلم: غشششش!

العقاب هو الفصل المثير الذي ينقذ التلاميذ من ملل الدرس، لذلك يستدرجونه حين لا ياتي تلقائياً. يرفع أحد التلاميذ من الصفوف الخلفية مقاطعاً الدرس: سا سا سا… يتوقف المعلم و يصغي و قد تملكه الغضب، آنذاك يمرّر التلميذ الوشاية على زميله:

- هو الذي رمى قطعة الطباشير على السبورة!

حكمة العقاب كما حكمة الله: سينالكم هذا العقاب إذا اتبعتم طريق المذنب! يتحسس الجميع وقع الخيزرانه على اللحم، لكنهم سعداء لأن الذي يذوق الألم هو الآخر بسبب ضعف في فطنته، أما نحن المشاهدين فلدينا من الحيل ما يكفي لتجنب العقاب. من تجاربي مع الخيزرانة لا أتذكر مرة واحدة عدّلت الخيزرانة من سلوك المُعاقَبْ، لكني متأكد من أنها تقوي سلطة المعلم، لذلك يتمتع المعلم بالسير وهم يحرك خيزرانته بحيث تصفر في الريح في نوع من استعراض سلطته.

ذات يوم رأى مديرنا واحداً من الطلاب يرتدي كيساً ورقيا على رأسه على شكل سدارة، دافعاً صدره في مشية ديكية وهو يلوح بالخيزرانة. لم يحتسب المدير وهو يراقب المشهد من شباك غرفته العالية، سلوك هذا الطالب نوعا من المرح وخفة الدم كونه يقلد مشيته، إنما احتسبها انتقاصاً من هيبة سلطته، ولذلك قرر ان يعاقبه بنفسه.

تضاعف العقاب و تمسرح لجمهور أوسع حين انتقل من الصف أمام عدد محدود من التلاميذ الى ساحة الاصطفاف الصباحي بعد رفع العلم.

طالب مثالي و مطيع رفع العلم في الاصطفاف الصباحي. بعد النشيد الوطني والتصفيق، بدأت مسرحية الرعب. جرّ المدير المقلد الساخر من الصفوف الخلفية الى عراء الساحة و بدأ بخطبة عصماء: المدرسة هي الدولة مصغرة. تأخد الأولاد من بيوتهم لتدخلهم في حضانة الدولة. المدير يحل مكان الأب القاسي وهو ممثل الدولة في العائلة الأوسع.التقليل من هيبة المدير تقليل من هيبة الدولة. تحدث وهو يخطّ بالخيزرانة كلماته في الفضاء. بعد الخطبة بدأ الضرب، لا أدري عدد الجلدات، لكنها كافية لأن تقلب المعاقب من المكابرة وابسامة السخرية الى النزول على الركبتين مع التوسل الباكي. فيما بعد عرفت إن كلمات مثل هيبة الدولة، القانون، الشغب،العصيان…تعني الطاعة و معادلها هو العقاب. كلما كان العقاب شديداً ومؤلما سينغرس في وعي مشاهديه.

كنت واحداً من أكسل التلاميذ. أكره الدرس فاشرد بعيداً عن كلام المعلم، غارق في خيالات لا تمتّ لحدود دولة العراق و نهريه و هضبته الرسوبية. خيالي الجامح يكسر قشرة الجوزة ويذهب الى رحاب متسعة فاعجز عن أن ألمّه ثانية. أكره الواجبات وخاصة الحساب والرياضيات وأركض قبل الجميع حين يدق الجرس. تزداد ذنوبي فأحايل أهلي والمدرسة فاختبئ خلف سورها من الخارج وابقى هكذا منطوياً أسمع هرج الطلاب في الاستراحات بين الدروس، مع ذلك أبقى مختبئاً كفأر حتى تنتهي الدروس فأندسّ في سيل الطلاب العائدين الى بيوتهم. حتى في أيامي هذه وقد قاربت الثمانين ما زلت أحلم بتلك الزاوية الرثة تحت سياج المدرسة، تمر الأيام و تفوتني الدروس خائفاً وقد اقترب الامتحان، اريد أن أعوض الأيام التي فاتت، لكن الزمن يتسرب مني، بلا توقف.

عوالم متناقضة

بين تربية أهلي وبين أصدقاء طفولتي عشت ازدواجية عالمين. تريد أمي ان نتفوق على فقرنا بان نكون الأنظف بين أقراننا والأفضل منهم في ملابسنا والأكثر أدباً في سلوكنا مع الآخرين، بينما تعلمنا صداقات الشارع أن نكون الأكثر جلافة في التعامل مع من يريدون التطاول علينا وألا نستغني عن سكين او عصا حين نغادر زقاقنا إلى أزقة معادية، ونمارس أقسى الألعاب ومنها الصراع ونحن نركض على رجل واحدة (أم حجيم) أو المطاردات بين مجموعتين. وهي ألعاب تجعل الحفاظ على نظافة ملابسنا أمراً مستحيلاً.

عشت ازدواجية أخرى، بين كتب والدي وما تتركه في داخلي من أخيلة و تمثلات رومانسية من قصص الحب والهجر، وبين العوالم الخشنة التي تحيط بي حالما أغلق الكتاب وأخرج إلى واقعية الزقاق وما فيه من صبيانيات وبلطجة وسرقات واستهجان لأي ملمح ضعف. أمي تعتقد أن صداقتي لآل اللواني تخرب كل جهودها لتصنع منا دمية نظيفة أنيقة مهذبة شأن كل أولاد الأفندية المتعلمين. بينما ينظر موامنتنا لأقاربهم من آل اللواني كـ (عوام)، تفكيرهم بسيط وألفاظهم بذيئة. لا يذكرونهم كأقارب إلا حين يعتدي أحد عليهم، وآنذاك يتذكرون شهامتهم في الدفاع عن الأقارب. منذ طفولتي لم أجد فرقاً بين العالمين، فللـ (العوام) مثل المتعلمين كثافة مشاعر وأحاسيس. لن أنسى أبداً فرح ياسين وجواد اللواني حين عبدت باحة بيتهم بالطابوق الفرشي بعد أن كانت طينية مثل الزقاق، استلقى الإخوان مثل علامة زائد على الأرض باسطين أذرعهم وأعينهم الى السماء في نوع من صلاة شكر، بينما زغردت أمهم (فضة) وهي تتلمس الأرض براحة يدها.

الحصيري

معي في الصف حتى نهاية الدراسة الابتدائية صبي مميز في مكانه وهيأته واجتهاده.يجلس بوقار في منتصف الصف الأمامي. وهو الوحيد الذي بقي يرتدي دشداشة نظيفة مزررة حتى العنق. ما شفع له كونه سليل عائلة دينية رفضت الزي الرسمي. نادرا ما يبتسم ويتجنب المشاركة في الرياضة او اللعب في الساحة، و لا يشاركنا الكلام إلا بأجوبة مقتصدة. بدورنا تجنبناه باعتباره نوع من البشر لا يمكن فهمه بسهولة. حين يملّ المعلم من لإلقاء يطلب منه ان يحل مكانه فيلقي علينا الدرس عن ظهر قلب. الاجتهاد في النجف يكمن في القدرة على الحفظ والاستظهار. حفظ سور القرآن بكاملها، حفظ الأحاديث، حفظ النصوص الفقهية، حفظ القصائد…النصوص هي التي تحل معضلات الحياة اليومية حتى لو لم تصمد أمام التجربة. عبد الأمير الحصيري سحرنا بقدرته الخارقة على حفظ النصوص. حين نذهب كحزمة أصدقاء لمكتبة (الرابطة الأدبية في النجف) لنتسلى بمجلة (حبزبوز) الساخرة، نراه وحيداً في ركن قصي منكبٌّ على دواوين البحتري والمتنبي وأبي نواس. نعرف أنه يكتب أشعاراً حسينية، ولدينا إحساس بأنه سيكون له ذات يوم شأن ما، لكننا لم نتوقع ابداً الانقلاب اللاحق في حياته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: ذهب نور وجاء زيد

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram