طالب عبد العزيز
صيف آخر يمضي والطبيعة أكثر خسرانا، والناس في خيبة الامل، فالنخل ينقص من حولهم، والماء نزر وبملح كثير، والفلاحون ذهبوا، خلعوا عن أجسادهم ثياب الماء والحقول القصيرة، وارتدوا السراويل والقمص الملونة، وسكنوا المدن القريبة، حيث تتقابل وتتعامد البيوت، ولم تعد القرى خضرا، فهي الجزء المشوه في المدينة اليوم،
ولم يعد أحدٌ يتحدث بلغة المواسم، أو كمال وانتصاف الاهلة، وفقد حديثهم استعارات الحرث والغرس والجني، هكذا ومثل فجيعة مرّت السنوات السبعون بي، في مكان ظل يتزحزح شيئاً فشيئاً حتى فقد كونه أي شيء.
أكتبُ هذه قبل ظهر اليوم الثاني من شهر ذي الحجة، من العام الهجري 1444 وقد اصطبغت أرض البمبرة، القريبة من البيت بالأصفر الذهبي، فثمرها يساقطُ جنيّاً منذ أسبوع، وهو إيذان بصفرة البشير، أول (الخَلال) -فخّموا اللام الثانية معي من لطفكم- والأصفر الحلّاوي أول بُشَراءِ النخل. لا اعرف كيف دخلت النخلة الحلّاوية البصرة، وكيف أصبحت خير نخيلها، وأول تجارتها الى أمريكا وأوربا وآسيا، لكنني أريد أن أذهب بعيني الى الايام تلك، وأحمل عنّها ثقل العذوق، وهي تغطس بالفيء، وهي تهبط بطيئةً الارضَ، كاملة البهاء، وأرى تقلبها في الالوان، المُس الذهبيَّ الذي كان زبرجداً، وأطَعَّمُ روحي ما خرفت يداي، من الاحمر الذي كان ياقوتاً، فأراني بين صيفين، مُطْعِمٍ غابر ومُحْرِقٍ مايزال.
يقول صاحبٌ لي بأنَّ الطريق الى بيتنا بعيدةٌ، وهي بمنعرجٍ وعُقوفٍ حتى يصل، لكأنه يدور حول نفسه، وأنه يخطئُ البيت كلما جاءنا زائراً، فذهب مذهب أهل المدينة، مستعيناً بخرائط هاتفه، ومسترشداً، ذلك لأنَّ النخل لم يعدْ قلتُ له: لو جئتنا قبل عشرٍ لأهتديت، لأنني سأصفُ الطريق لك مستدلّاً بعدد الانهار والجسور وأخصاص السعف، ومسميات النخل وأصحاب البساتين، سأقول لك مثلا: إن جئت في المدِّ بعد مغيرب الشمس بساعة فخذ السفرجل، عن يمينك هادياً، وإن كان مجيئوك صباح الاحد والاثنين فسيصحبك النهر الينا دون الطريق، سوران من غَرَبٍ وجريد وحلفاء غير منتظمين بجذع، ولم يخرزا بحبل قِنَّب بعد يقودانك يا أخي، وإذا استعجلت جادّة التوت، تعلوها قمرية العنب، فهي خير، ستجدنا هناك، نائمين، فقد هدَّنا صعود النخل الطوال، أخذنا السَّمكُ الصُّبورُ واللبنُ، مخيض الفجر الى الاسرة باكرين. الفروّند طويل ومعلقٌ بالسقف، والمنجل معقوف مثل هلال بطيخة، يصيح بك أنْ هنا.
في ليالي الشتاء، وبعض ليالي الصيف أيضاً، حيث ينحسرُ أو يشحُّ ماءُ المدِّ، تضطرنا الحاجة الى إقامة سدٍّ على النَّهر، الذي نشربُ منه ونخلُنا وزرعُنا، لحجزه مرةً، وإحداث فتق به ودخوله ثانيةً، فنحن نفتحُ ونسدُّ، نحتجزُ ونطلقُ، وبالطين سدَّنا كلَّ ليلة، من الليالي تلك، يوم كانت الانهارُ مادة الريِّ والسقي وقوامة العيش. كنتُ وأبي وأخي نحفظ وعن ظهر قلب مواعيد طغيان المدِّ، وبطءِ وخَوَر الجَّرز، فنتقاسم النهارات والليالي، محتجِزين ومطلِقين.
في كتابه(غاية النهاية) ينقل ابن الجزري(751 - 833 هـ) عن محمد بن اسماعيل الخطاف انه قال: "كان صاحب(كتاب النخلة)أبو حاتم السجستاني وأبواه قد جعلوا الليل بينهم أثلاثا، فكان أبوه يقيم الثلُثَ، وأمُّه تقيم الثلُثَ، وأبو حاتم يقوم الثلُثَ الاخير، فلما مات أبوهُ جعل الليل بينه وأمَّه نصفين، ولما ماتتْ أمُّهُ جعل أبو حاتم يقوم الليل كلّه ".