لطفية الدليمي
لايتعبُ الاستاذ غالب الشابندر من التصريح بأننا، عراقيين وعرباً، مجتمعاتُ قدوة. القدوة فينا هي النموذج السائد للأخلاقيات؛ فإن صلحت القدوة إرتقت الاخلاقيات، وبعكسه ستهوي الاخلاقيات إلى أدنى المراتب عندما تتسفّلُ القدوات.
يبدو أنّ الاستاذ الشابندر يرى مصداقاً مؤكّداً في المَثَل الذي بات أقرب لعُرفٍ مجتمعي: السمكة تفسدُ (تخيس) من رأسها!!. ربما سيسارع كثيرون إلى إعتماد مقولة (الناسُ على دين ملوكها). لابأس في هذا أيضاً. الناس على نموذج حكّامها: إنْ سرق الحكّامُ سرقت الرعية (الناس)، وإن عفّ الحكّامُ صار الناس إلى الفضيلة والعفّة أقرب.
ليس بوسعي سوى أن أتفق مع الشابندر. نعم، نحنُ مجتمعاتُ قدوة. دقّق ملياً في التاريخ العراقي: عندما كان الحاكم لايسرق تضاءلت كثيراً مناسيبُ السرقة في المجتمع العراقي. العفّة في المخيال العام تقترنُ بنظافة اليد من المال المنهوب، ويبدو أنّ علاقة شرطية توجد بين سرقة المال واقتراف الكبائر. سرقة المال مدخلٌ لكلّ النقائص والمثالب لأنّ المال السائب يستهوي النفوس الخائرة على إستجلاب المزيد ممّا تحسبهُ طيّبات هذه الحياة.
قد يبدو القولُ بأهمية القدوة وفضائلها منقبة محمودة للعراقيين والعرب. الحقّ هو مثلبة. عندما تكون روحك وعقلك مصوّبتيْن تجاه الحاكم ومايفعل فأنت تجعل من نفسك رهينة لأفعاله. أنت بهذه الفعلة لستَ كائناً ذا أصالة أخلاقية لأنّ نسقك الاخلاقي مستوردٌ وليس حالة تنبعُ من قناعتك ورؤيتك واجتهادك وتعبك، التقليدُ في حياتك هو البديل عن ثقل الضمير وسطوته الموجعة، ومحبّة المثال الاعلى (الحاكم) هي البديل عن تقديرك لذاتك وماتفرضه عليك من إلتزامات ومسؤوليات.
يلاحظ المتابع الدقيق للتاريخ العراقي أنّ (ديوان الرقابة المالية) كان أحد أولى التشكيلات الحكومية التي تأسست مع نشوء الدولة العراقية الحديثة عام 1921. ظلّ هذا الديوان الحكومي مؤسسة ذات سطوة وقوّة حفظت المال العراقي من العبث حتى عام 2003. لم يكن أحدٌ يجرؤ على مدّ يده والعبث مع مال العراق لأنه يعرفُ أنّ يده ستُقْطَعُ من غير رحمة. ظلّت الدولة العراقية نزيهة في عهديْها الملكي والجمهوري. تستطيعُ أن تقول ماتشاء في السلوك السياسي للحكّام؛ لكن ليس من أحد يستطيعُ الطعن في نزاهتهم وعفّتهم جميعاً بلا استثناء. لم نسمع أبداً أنّ رئيساً أو وزيراً أو مديراً عاماً قبل 2003 أثرى أثناء وظيفته أو بعد تقاعده منها. كانوا يعتاشون على تقاعدهم المحسوب طبقاً للقانون. لم يكونوا يسرقون المال العام ويراكمونه لكي يتحولوا بعد التقاعد إلى مقاولين أو رجال أعمال.
قرأتُ مرّة أنّ ديوان الرقابة المالية أيام الحكم الملكي أشّر على مخالفة في صرفيات البلاط بسبب طلب إثني عشر صندوقاً من (العنبة) الهندية المشتراة من أسواق البصرة. كتب مدقق الديوان: هل يتناول جلالة الملك (فيصل الثاني) إثني عشر صندوقاً من العنبة كلّ شهر؟ كان يمكنُ لخيال الموظّف – لو لم يكن منقاداً لضمير نقي ومثال رفيع في النزاهة – أن يسوّغ الامر بأنّ موظّفي البلاط الملكي يتقاسمون قناني العنبة فيما بينهم؛ ولكن لماذا يوظّفون إسم الملك في هذه اللعبة؟ قد يبدو مثال العنبة هذا بسيطاً؛ لكنّ العفّة تبدأ من هذه النماذج البسيطة ثمّ ترتفع مناسيبها لتطال ميدان المقاولات الحكومية الضخمة وجداول الاستيرادات والتعاقدات الحكومية. القاعدة تقول: من يتهاون في صغائر الامور سيتهاون في كبيرها أيضاً؛ بل وقد تغريه اللعبة والمال السائب أو المسفوح تزويراً واختلاساً وتلاعباً. المؤتمَنُ على القليل هو الذي يتوجبُ أن يُؤتَمَن على الكثير.
معادلة النزاهة إذن هي: قدوة نزيهة + قانون صارمٌ لايعرفُ التهاون مع السرّاق. ماذا حصل بعد عام 2003؟ أُكِل الاخضر بسعر اليابس، وجرى تشبيك الامور ببعضها حتى طغى الباطل الذي صار حقاً مشرعناً. عندما جاء الامريكان علت نغمةُ أنّ الاقتصاد العراقي مشلول بفعل المركزية الصارمة، وأنّ الخطوة الاولى لكلّ إصلاح هيكلي لاتكون إلا بحلحلة البيروقراطية الحكومية والتساهل في أبواب الصرف المالي. راح المال العراقي يُصرَفُ بلا حساب في مشاريع كاذبة. هل تتذكرون (بريمر) وهو يقول أنّ أموال الصندوق العراقي ستُصرفُ على 18000 مشروعٍ عراقيٍ؟ السيد بريمر حسب لنا إبدال زجاجة مكسورة في نافذة مدرسة مشروعاً كاملاً، هذا عدا المشاريع الوهمية التي صارت لاحقاً ماركة مسجّلة بإسم جهات عراقية سياسية محدّدة ومتنفّذة. يبقى السيد بريمر أمريكياً وليس عراقياً، وليس لنا أن نتوقّع من أمريكي أن يحرص على أموال العراقيين أكثر من العراقيين أنفسهم. هذا ماتخبرنا إياه البداهة العامة وحكمة الشعوب؛ لكنْ لامنطق في عراق مابعد 2003، وهذا اللامنطق هو ماقاله أحد الامريكان لمسؤول في محافظة ديالى: لاأحد يساعدُ من لايريد مساعدة نفسه!!. أشهدُ أنّ هذا الامريكي قال حقاً وصدقاً.
لماذا يحتكمُ العراقي إلى مثال القدوة وسطوة القانون؟ لأننا – ببساطة – لم نغادر طور الاخلاقيات القبلية والعشائرية. صنع لنا البريطانيون دولة أرادوها مدنية خاضعة للقانون؛ لكننا حكمناها بقوة الاعراف العشائرية وليس بقوة القانون. التفكير النقدي والمساءلة الفلسفية غائبة عن قطاعات كبيرة من العراقيين الذين يتعاملون مع الحياة بحسية مفرطة. يرون الحاكم: هل هو نزيه وعفيف اليد؛ فإذا عفّ عفّوا أو حاولوا أن يعفّوا، وإذا سرق سرقوا. لم نكن يوماً دولة مؤسسات وقانون.
هناك أفراد في هذا العالم لايقبلون العيش إلّا بطهرانية كاملة. هؤلاء لاينتظرون قانوناً يوجّه أفعالهم ولايتطلّعون إلى مثال علوي يرسم سلوكهم تبعاً لسلوكه هو. لو أخطأوا فإنّ عقاب ضميرهم أقسى وأمرُّ من أي عقاب يفرضه القانون. في المقابل يوجد أفرادٌ لايستطيعون العيش ولايستطيبونه إلا إذا سرقوا أو تحايلوا أو خرقوا القانون. الالتفاف على القانون لذّتهم الكبرى، والسطو على المال (العام أو الخاص) خصيصتهم التي يحسبونها إمتيازاً حصرياً لهم. هؤلاء كائنات خطرة يجب وضعها دوماً تحت هراوة القانون الثقيلة وعيونه التي لاتغفل – ولايجب أن تغفل لحظة – عن سوء أفعالهم لو أتيح لهم العبث. يجب أن لايرتاح هؤلاء أبداً حتى في نومهم. يجب إبقاؤهم تحت وطأة الشعور الثقيل بأن أشباحاً تطاردهم وتقضُّ مضاجعهم وستمسك بخناقهم مهما طال الاجل. أما باقي البشر فهم بين هذا وذاك: قد يقوى عليهم الزلل لو حدسوا غياب القانون الصارم وضياع مثال القدوة في الحاكم.
لم يكتفِ مسؤولو مابعد 2003 بأن يغادروا مواطن العفّة؛ بل صاروا يشرعنون السرقة تحت لافتات كاذبة. تخيّلوا: كيف يمكن لمسؤول سارق مطعون في نزاهته وعفّته أن يشرّع قانوناً صارماً بالضد من السرّاق؟ ستخاطبه روحه الامارّة بالسوء: ماذا تفعل يافلان؟ أتسعى لمعاقبة السرّاق وأنت غاطسٌ في وحل السرقة حتى هامتك؟ أسكت واستر فضيحتك. إحتفظ لنفسك بالصفقات الكبيرة واترك للآخرين لقيماتٍ صغاراً يكفّون بها ثقيل الدعاء عليك بأن ينقصف عمرك ولاتهنأ بمال أو ولد أو عقار.
صار المسؤول بعد عام 2003 صفيقاً لاينكرُ الفساد بل يلجأ لتسويغات على شاكلة: ولماذا أنا وحدي من تُوجَّهُ له السهام؟ لماذا لاتتناوشون الفصيل الفلاني أو الجهة الفلانية أو السياسي الفلاني؟
أبَعْدَ كلّ هذا الخراب في النفوس والضمائر وغياب القانون الصارم نشتهي من الحَسَك تيناً ومن الشوك عنباً؟