ستار كاووش
بعد إستراحة قصيرة قضيتها في متنزة يوبيل، تركتُ خلفي المصطبة الخشبية وبعض العشاق المستلقين على العشب، مستمتعين بدفء الشمس، وعدتُ لإستمتع على طريقتي بما يحتويه المتحف الملكي بمدينة بروكسل. أخرجتُ التذكرة من جيبي،
لكن الموظفة لم تكن بحاجة الى رؤيتها مجدداً، فقد تذكرتني قبل أن تفتحَ الباب الزجاجي الذي صاحب إنفراجة إبتسامتها، وهكذا دخلتُ مرة أخرى لإستكمال مشاهدة معروضات المتحف التي من فرط كثرتها، بَدَتْ كإنها لا تريد الانتهاء.
كل أعمال المتحف، تستحق الوقوف طويلاً أمام جمالها وإبتكارات خطوطها وتكويناتها المختلفة، لكني قررت هذه المرة أن أقضي بقية يومي مع حضارة العراق ومنحوتاته العظيمة، وخاصة المنحوتات الآشورية التي أعتبرها ذروة ما وصلَهُ النحت عبرَ التاريخ، ولم أشاهد في حياتي ما يوازي قوتها وتأثيرها واسلوبها الفريد وإنسيابية خطوطها وعمق تعبيرها، ويُضاف الى كل ذلك، قوتها التعبيرية وهيبتها التي تسيطر على كل من يقف أمامها ويتمعن بملامحها ويتحسس الطاقة الكامنة فيها.
تجولتُ أولاً بين معروضات الأختام الأسطوانية التي إنتشرت في المتحف، لتقول حكاية العراقيين الذين عاشوا في ذلك الوقت البعيد، أختام لا يتعدى حجم الواحد منها نصف أصبع، لكنها قالت الكثير عن تاريخ بلدنا، وحكتْ قصص الأجداد الذين مرَّروها على الطين، وأعلنوا من خلالها عن بداية تاريخ البشرية الذي وضعَ العراق أولى لَبناته. كذلك تـعتبر هذه الأختام أول طباعة عرفتها البشرية، إنها صحف ذلك الزمان، حيث طبعَ العراقيون أخبارهم على الطين.
تركتُ الأختام الأسطوانية التي توزعت بين قاعات المتحف مثل قطع حلوى سومرية، وإقتربتُ من مسلة شلمنصر الثالث، المنحوتة من حجر الديورايت الأسود، والتي إكتشفها البريطاني أوستن هنري سنة ١٨٤٥ أثناء التنقيبات في نمرود، وقد منحَها للمتحف الملكي في بروكسل. وهي تعتبر من أهم إنجازات الفن العراقي، إرتفاعها متران تقريباً وتحتوي على عشرين نحتاً بارزاً بجوانبها الأربعة، ومقسمة الى خمسة أقسام تتابع عمودياً، وتظهر فيها الأقوام المغلوبة وهي تقدم طاعتها للملك الآشوري شلمنصر الثالث، وقد أُنجزت هذه المسلة بين سنتي (٨٥٨-٨٢٤) قبل الميلاد. وهي واحدة من مسلات كثيرة غطت تاريخ العراق، مثل مسلة حمورابي الموجودة الآن بمتحف اللوفر في باريس، والتي يَعدها المؤرخون أهم مسلة في التاريخ لأنها تحتوي على شريعة حمورابي التي ضَمَّتْ أول قوانين سَنَّتها البشرية بين سنتي (١٧٩٢-١٧٥٠) قبل الميلاد. وبالعودة لكلمة مسَلَّة فهي تعني باللغة العربية (الابرة الكبيرة) التي تُخاط بها الأقمشة السميكة وأشرعة السفن (مُخْيَط) بالعامية العراقية، وهذا يوضح إرتباط التسمية بشكل المسلة الطويل، والمدبب عادة من الأعلى.
أمضي وسط الأعمال العراقية التي حوَّلَتْ المتحف الملكي الى قصر آشوري قديم، إنه قصر الأجداد الذين عاشوا على أرض الرافدين، وهم يبنون حضارتهم حجارة فوق أخرى ويضيؤون أيامهم بالعلوم والفن والحكمة، ليُعَلِّموا البشرية كلها فيما بعد إن الذكاء والفطنة والعبقرية العراقية عمرها أكثر من سبعة آلاف سنة، يا لعمر العراق الذي بسطَ تأثيره على كل العالم. إقتربت جولتي من النهاية، لكني قبل أن أخرج من المتحف، وقفتُ في زاوية تغطيها بعض العتمة، ولَمَحتُ بقعة ضوء تستقر على تمثال الملك سرجون الثاني الذي كانَ قبالتي تماماً. إقتربتُ من هذا الملك العراقي القديم، وخاطبتُه هامساً وسط إستغراب بعض الزائرين الأجانب. ثم مددتُ يدي خلسة ومررتها على اليد الحجرية للتمثال الذي إبتكرهُ فنان عراقي قبل آلاف السنين، تحسَّستُ بأصابعي يد التمثال وشعرتُ بأني أضع يدي بيد ذلك الفنان الذي حَوَّلَ هذا الحجر الى اعجوبة فنية في أحد قصور شاروكين. هنا في هذا المتحف أحسستُ كإني أقفُ وجهاً لوجه مع ذلك الفنان العراقي القديم، فنانان من العراق يتقابلان وسط المتحف، رغمَ آلاف السنين التي تفصل بينهما، فنانان من أرض العراق يجتمعان تحت سقف واحد في متحف وسط أوروبا، أنظر الى ملامح التمثال وأرى كم نحن قريبان، لا فرقَ بيننا سوى إني بحاجة لجواز السفر كي أحضر الى هذه المتاحف التي يملؤها الفن العراقي، فيما هذا الابداع العراقي القديم لا يثق بجوازات السفر، بل يثق بجناحيه التي يطير بهما نحو كل انحاء العالم كما طار الثور المجنح عبر التاريخ، وليس هذا وحسب، بل إن الناس من كل العالم يقطعون مسافات طويلة للوصول الى هذا المتحف وغيره، لمشاهدة إبداعنا والوقوف أمام سر العبقرية العراقية التي اخترعت الكتابة وابتكرت الفنون وصارت في المقدمة. ما أروع هذا الاحساس الذي لا يملكه أحد على وجه البسيطة، سوى العراقي الذي يحب بلده وينتمي الى ابداعه ومكانته العالية التي تهز المشاعر وتُعطر الروح بنوع من البخور البابلي القديم.