ستار كاووش
كل مدينة هي مرآة لثقافة الناس الذين يعيشون فيها، وهي إنعكاس لما يفكرون به ويحبونه ويفعلونه، بل وحتى ما يطمحون اليه. وشكل أية مدينة يشبه ثوباً خاطه سكانها حسب ذوقهم وألبسوه لها كما يتمنون، فنرى مدينة ترتدي ثوباً مطرزاً بالورد،
وأخرى بثوبٍ قصير، فيما تتغطى مدينة ثالثة بقطعة قماش كالحة ولا تُظهر من ملامحها شيء. وها أنا أتجول بين شوارع مدينة بروكسل التي تشبه فتاة جميلة وخيالية، وكإنها واحدة من شخصيات القصص المصورة. وهذه ليست مصادفة أبداً، لأن بروكسل تعتبر فعلاً واحدة من أهم وأشهر المدن في العالم من حيث إبتكار وإصدار القصص المصورة، وطباعتها دون توقف. فلا يمكن أن تَمُرَّ في طريق أو تجلس في مقهى أو حتى تدخل في محطة مترو، إلا وتداهمكَ رسومات أبطال القصص الشهيرة وكإنهم يتقاسمون معك المكان أو يجلسون على طاولتك ويحتسون معك القهوة.
وصباح هذا اليوم عند خروجي نحو شوارع المدينة التي تتفرع وتتشابك مثل أغصان شجرة عملاقة، قررتُ القيام بجولة لمتابعة الجدران التي رُسمتْ عليها جداريات كبيرة لأشهر شخصيات الكوميكس، حيث تحولت بروكسل من خلالها الى كتاب كبير وساحر للقصص المصورة. ولأني من عشاق هذا النوع من الفن، مضيتُ أُقَلِّبُ جدران المدينة واحداً واحداً، وأعيش وسط هذه الشخصيات التي تابعتها عقود من الزمن على صفحات المجلات والكتب.
هكذا بدأت جولتي من شارع دوبون سيكور، حيث ظهرت هناك الجدارية التي تمثل البطل ريك هوشيه، هذا المراسل الصحفي الشجاع الذي يطارد اللصوص والمجرمين، والذي بدأت مغامراته في مجلة تان تان بمنتصف الخمسينيات، وصدرت منها ثمانية وسبعين مغامرة، طبعت بألبومات منفصلة أو صدرت متتابعة في مجلات شهيرة. تركت ريك هوشيه يقفز من نافذة الى أخرى، وتوجهتُ نحو شارع دومارشيه حيث إنتصبت جدارية تمثل شخصية فكتور ساكفيل، وهو جاسوس بريطاني قامَ بمغامراته في بروكسل، والجدارية تمثل مشهداً من إحدى قصصه التي تمت أحداثها على ذات الشارع خلال الحرب العالمية الأولى. عطفتُ نحو اليمين ومضيت بمحاذاة ساحة السوق الكبير لأتوقف في شارع ستوف، أمام جدارية تان تان الذي يعتبر أشهر شخصية كوميكس بلجيكية، حيث إبتكره الفنان العظيم هيرجيه، وفي هذا المشهد يظهر تان تان صحبة كلبه بوبي وصديقه الكابتن هادوك وهم ينزلون من سلم طويل بحثاً عن صديقهم البروفيسور الذي إختطفه بعض الأوغاد. ويحضى تان تان بشعبية مذهلة حيث مازالت تُباع من مغامراته كل سنة أكثر من مليون نسخة. قطعتُ بعض الشوارع الصغيرة، وحين صرتُ بمحاذاة احدى المقاهي، بانتْ لي جدارية تمثل المغامر الكوميدي بروسايل، وهو يتسكع غير مبالٍ بين شوارع المدينة صحبة صديقته، بملابسهما المتشابهة وشعرهما القصير، وقد إستند هذا الرسم على واحدة من مغامراته التي نُشرتْ في المجلة الشهيرة سبيرو. بعدها بقليل وفي منعطف جادة ديس الكساين ظهرت جدارية مدهشة للرسام الشهير إيف شالاند الذي توفي بحادث سيارة وهو في الثالثة والثلاثين من عمرة وظلَّ يحضى بمكانة فريدة بين رسامي الكوميكس، حيث مازال جامعو اللوحات يسعون للحصول على أعماله الأصلية. وفي هذه الجدارية أقف أمام أحد أبطاله الصغار الذي اشتهر بمقالبه الغريبة في مدينة بروكسل بعد الحرب. أمضي بين شوارع المدينة لأصل الى شارع كابوسان حيث الجدارية التي تعود للأب الروحي لرسوم الكوميكس البلجيكية جوزيف جيلان، وهنا يظهر اثنان من أبطاله الصغار، بلوندين الذي يحاول دائماً حلَّ المشاكل المعقدة بهدوء، وصديقه سيراج الذي يفضل أن يزج نفسه بالمشاكل قبل حلها. أمضي بين أزقة بروكسل ومقاهيها لأصل الى شارع بييرمانس، حيث جدارية البطل الصغير والمرح جوجو الذي يظهر في قصصه مع جدته، وهما يعيشان في منطقة شعبية، حيث تحدث الكثير من المغامرات الكوميدية. وشخصية جوجو تعود للرسام أندريه غييرتس الذي اشتهر بديناميكية اسلوبه وليونة خطوطه المنحنية، كذلك استعملَ أنواعاً مختلفة من الألوان، من ضمنها حتى ألوان الباستيل، كي يمنح رسوماته التأثيرات والتعبيرات التي يريدها. مضيت وأنا أفكر بهذا الفنان المدهش، لتداهمني وسط شارع ريبوك جدارية للصبي بولي الذي ظهر وسط شوارع بروكسل وهو يدفع عربته التي ملأها بأشياء غير متوقعة، منطلقاً بكل طاقة وأمل وحباً للحياة ومعه كلبه الصغير
لا يمكنك مشاهدة هذه الأعمال المدهشة وغيرها الكثير، إلا بعد أن تقطع شوارع المدينة ومنعطفاتها مشياً على الأقدام. وبما أني قطعتُ نصف شوارع بروكسل مشياً، وجدتُ نفسي قريباً من محطة القطار، لذا فكرتُ أن أختار احدى المقاهي لأجلس هناك مع فنجان قهوة وأفكر بهذه الشخصيات الممتعة، ثم أستعيد بعض الطاقة، كي أكمل مشاهدة النصف الآخر من شوارع هذه المدينة التي جعلتني أبدو كواحد من أبطال القصص المصورة. يتبع