TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > لقائي بالكاتبة البريطانية أغاثا كرستي/ Agatha Christi

لقائي بالكاتبة البريطانية أغاثا كرستي/ Agatha Christi

نشر في: 4 يوليو, 2023: 10:36 م

بلقيس شرارة

كان ذلك في عام 1962، فقد اقيم حفل في قاعة فندق بغداد، حضره رئيس الوزراء عبدالكريم قاسم والوزراء، وكان رفعة الجادرجي مدير الاسكان العام آنذاك، فدعي بهذه المناسبة الى هذا الحفل. كان عبد الكريم قاسم في القاعة يحيطه عدد من المسؤولين،

وكانت القاعة مليئة بالمدعوين، وهي المرة الأولى التي ارى فيها عبد الكريم قاسم وجهاً لوجه. إذ كنت اشاهده من خلال التلفزيون، عند الاستماع للأحداث اليومية. كان رفعة يصّر في تلك الفترة، على آلا يلتقي برئيس الوزراء عبد الكريم قاسم وجهاً لوجه، ويتذكر عندئذ نصب اربعة عشر تموز، حيث كان الرئيس يفّضل ان تكون صورته كجزء من النصب، وحاول رفعة بكل استطاعته آلا تكون صورته جزء من النصب، إذ كان يعتقد أن أي انقلاب سيحدث في المستقبل، سيكون النصب أول ضحية، ويرفع من مكانه، لذا بقينا انا ورفعة في مدخل القاعة.

وبالصدفة كانت الكاتبة البريطانية أغاثا كريستي بصحبة زوجها الآثاري (ماكس ملون/ Mallowan Max)، بقربنا فعّرفنا عليهما احد موظفي السفارة البريطانية الذي كان واقف بجانهما.

كان رفعة من المولعين في القراءة عن الآثار، رغم انه معماري، لقد التقى بعدد من الآثاريين الذين كانوا يعملون في العراق، كما قرأ عدد من الكتب المهمة التي صدرت بشأن هذا الموضوع. وكان ماكس ملوين من الذين نقبوا مع الاثاري (ليونارد وولي/ Woolley Leonard) في أور خلال العشرينيات من القرن الماضي. فاخذا يتحدثان عن آخر التنقيبات في العراق. وكان "ملوين" متفائل من ان هنالك اهتمام بالآثار ودراستها من قبل الجيل الجديد، في قسم الآثار في جامعة بغداد.

أما أنا فوجدت نفسي امام أشهر كاتبة في كتابة الرواية البوليسية في العالم. وبعد ان سلّمت عليها بقيتُ صامتة أمام عظمة تلك الكاتبة، اتطلع اليها في حيرة، لا ادري هل اتكلم ام ابقى صامتة. وان تكلمت فبماذا وعن أي شيء أتكلم، ومن حسن الحظ انني كنت قد قرأت بعض رواياتها، من جملتها رواية (Murder in Mesopotamia/ جريمة قتل في وادي الرافدين) وقد كتبتها بعد زيارتها لمقبرة أور الملكية، وهي عن جريمة قتل حدثت اثناء التنقيب، ويبدأ بوارو في كشف معالم الجريمة. كما شاهدتُ مسرحيتها في عام 1961 عندما كنا في لندن، بعنوان: (مصيدة الفئران/ Mousetrap)، والتي كانت تعرض في لندن آنذاك، وبدأت كقصة قصيرة كتبتها آغاثا للراديو كهدية الى ماري زوجة الملك جورج الخامس، ثم طورتها إلى مسرحية، واعتبرت اطول مدة عرض لمسرحية في العالم، حيث بدأ عرضها في لندن عام 1952 حتى عام 2020، وتوقفت بسبب مرض الكوفيد، واعيد عرضها في عام 2021، وما زال عرضها مستمر في مدينة نيويورك.

واعتبرت الكاتبة آغاثا كرتسي من اشهر مؤلفي الروايات البوليسة في العالم في القرن العشرين، ويتعلق بعض رواياتها بموضوع الأثار وخاصة في الشرق الأوسط، إذ كانت ترافق زوجها (ملوين) في التنقيب عن الآثار في العراق وسوريا، حيث قضى وقتاً طويلاً من حياته. لذا كان لها دور مهم في رواياتها حيث جهزتها بالمكان والتفاصيل وحتى الاشخاص احياناً، لحبكة الرواية غير المتوقعة.

وقليل من الناس يدركون اعمالها ومدى خيالها ومغامراتها التي كانت مرتبطة في بعض الروايات بالاثار. واستطعتُ عندما زرنا مدينة أور، ان ادرك الجو الذي عاشت به الكاتبة آغاثا كريستي، ووحشة المكان وهدوء الليل، والأرض القاحلة المحيطة بالمكان، التي تهب عليها الرياح من الصحراء، حيث اتاح خيال الكاتبة الخصب حبك القصة.

إذ بعد بضع سنوات من لقائها في فندق بغداد، زرتُ مدينة (أور) أنا و رفعة و كان بصحبتنا الدكتور خالد القصاب، حيث قضينا اربعة ايام مع البعثة الالمانية التي كانت تقوم في التنقيب آنذاك، ورافقنا رئيس البعثة وقد احيا لنا مدينة أور من خلال تفسيره الدقيق، عن الحياة الاجتماعية والطقوس، والمفاهيم الدينية المهيمنة على المجتمع آنذاك، واعادها لنا حية من خلال التفاصيل الدقيقة التي وصفها لنا.

كانت آغا كريستي غزيرة الانتاج، فقد كتبت 66 رواية بوليسية خلال حياتها، ولذا لقبت بملكة الجريمة. كما كتبت 6 روايات تحت اسم مستعار (ماري وستماكوت/Mary Westmacott)، و تُرجمت كتبها إلى مئة لغة في العالم. وتأتي كتب آغاثا بالدرجة الثالثة من حيث قراءتها، أي بعد الأنجيل في الدرجة الأولى و شكسبير في الدرجة الثانية. وعندما التقينا بها كانت في بداية السبعينيات من عمرها، وكان زوجها الذي يصغرها بأربعة عشر عاماً، ما زال وسيماً ولو انه في نهاية الخمسينيات من عمره.

وحياة أغاثا كريستي لها شبه في بعض الروايات التي كتبتها. فقد عاشت في بيت واسع في ميناء (توركي/ Torquey) جنوب انكلترا. كان والدها الأمريكي ثري، لكنه مسرف إلى درجة التبذير، اما والدتها كلارا، فكانت محافظة لدرجة انها لم تسمح لها في ان تذهب إلى المدرسة عندما كانت في الخامسة من العمر، إذ كانت تعتقد ان المرأة يجب ان تتزوج، وان أمكن أن تتزوج من شاب غني، و تنجب اولاداً وتصبح ربة بيت، وهذه هي الفكرة السائدة في المجتمع البريطاني آنذاك عن المرأة.

وعند وفاة والدها في عام 1901، لم يُبقى شيئاً من الثروة فقد بددها اثناء حياته، كانت آغاثا في الحادية عشر من عمرها، وكانت مقّربة من والدها، وقد أثر وفاته عليها، لأن شقيقتها وشقيقها كانا أكبر سناً منها بأكثر من عقد. ووجدوا ان ليس باستطاعتهم أن يبقوا في البيت الكبير التي ولدت وتربت به أغاثا، كما ترك البيت معظم الخدم الذين كانوا يعملون فيه. في مثل هذا الجو، علمّت آغاثا نفسها القراءة والكتابة. وبدأت تكتب قصصاً على صغر سنها، وعندما بلغت سن الثامنة عشر، بدأت الجامعات في انكلترا تقبل البنات، لكن والدتها رفضت ذلك ايضاً، ولم يعد باستطاعة والدتها آنذاك حضور الحفلات التي كان يقيمها أثرياء البلد، لأن وضعهم المالي لا يساعد على ذلك، لكنها سافرت مع والدتها لمدة ثلاثة اشهر إلى القاهرة، وهناك التقت بالمغتربين من المجتمع الأنكليزي، حيث كانت مصر محمية بريطانية، وانسجمت في حضور الحفلات والرقص. في عام 1912 التقت بشاب اسمه ارشيبولد كرستي، كان طياراً وسيماً ورقصت معه، وقلب حياتها في تلك الليلة.

ولكن عند اندلاع الحرب العالمية الأولى بُعث الى فرنسا، وعاد في عطلة عيد الميلاد "الكرسمس" حيث تزوج من آغاثا، لكنه اضطر ان يترك إلى فرنسا ثانية، فالتحقت آغاثا في مستشفى في"توركي" لمساعدة جرحى الحرب، ومن خلال عملها شعرت بالثقة بالنفس كامرأة تعمل، وبدأت تتساءل عن الاطباء والطريقة السيئة التي يعاملون بها الممرضات. ولم تكن آغاثا الوحيدة من العائلات البريطانية الغنية، فقد التحق عدد من بنات العائلات الثرية آنذاك، ومن اشهرهن (أيدث برتي Edith Pretty) التي التحقت باحدى المستشفيات لمساعدة الجرحى، واشتهر اسمها بالباخرة التي ترجع إلى القرن السابع الميلادي أي فترة (الأنكلو ساكسن)، حيث اكتشف في ارضها كنز (ستن هو Sutton Hoo) وبدل من ان تبيعه، تبرّعت به للمتحف البريطاني.

في عام 1916 انتقلت أغاثا إلى مستشفى الصيدلية، وهنالك تعّلمت كيف تخلط الأدوية والأعشاب التي تستعمل في تلك الأدوية. ووجدت ان بعض النباتات إذا لم تستعمل كميتها بصورة صحيحة، يمكن ان تكون سامة وتقتل بذلك المريض. ووجدت أغاثا فرصة مهمة عندما دُربت على خلط الأدوية، حيث ظهر استعمالها في كتبها. و في تلك الفترة كتبت رواية، لكنها لم تنشر إلا بعد أربعة سنوات، فقد رفضت من قبل الناشرين.

أثناء الحرب العالمية الأولى جاء عدد كبير من اللاجئين البلجكيين إلى انكلترا، ونجد ان شخصية (بوارو) في رواياتها بلجيكي الأصل، وهو الذي يقوم بكشف الجريمة في معظم رواياتها. كما استفادت آغاثا من الحرب والمتغيرات التي بدأت في بريطانيا بعد انتهائها.

وفي عام 1919، ولدت لها بنتاً، ولكن اكتشفت ان زوجها آرشيبلد يخونها وله عشيقة، وهي إحدى صديقاتها. لم تكن أغاثا آنذاك كاتبة معروفة، حيث صدر لها رواية واحدة، ولكن عندما اختفت إحدى عشر يوماً، حيث سجّلت في الفندق باسم مستعار، وتركت السيارة التي كانت تسوقها مع حقيبتها. أدى اختفاؤها إلى حملة تفتيش واسعة من قبل البوليس، ولم تكتشف هويتها إلا من قبل احدى الفتيات اللواتي كن يعملن في الفندق، حيث اخبرت البوليس. هذه الحادثة تعطينا فكرة عن الكاتبة أغاثا الغريبة الأطوار، المستعدة ان تقوم بأداور تشبه أدوار بعض ابطال رواياتها. كما ادى اختفاؤها إلى أن تحصل على شهرة واسعة.

وبعد ان اتفقت على الطلاق من زوجها آرشي عام 1928، قررت السفر إلى جمايكا، ولكنها التقت قبل سفرها بضابط بحرية وزوجته، كان يعمل في الخليج العربي، وتحدث عن بغداد وعن التنقيبات التي كانت تجري في مدينة أور، فقررت في عام 1930 ان تسافر إلى بغداد بدل جمايكا. وقررت ان تذهب إلى أور أيضاً حيث التقت رئيس البعثة البريطانية ليونارد وولي Leonard Woolley، الذي كان أول عالم آثار اتبع الأسلوب الحديث في التنقيب عن الآثار، حيث كان يحتفظ بسجل ويستعمل ذلك السجل لإعادة بناء حياة أولئك الناس وتاريخهم بصورة منهجية. لم يكن ليونارد وولي يشجع على زيارة المكان الذي كان ينقب به، لكن زوجته رحّبت بها لأنها كانت قد قرأت روايتها (مقتل روجر آكرويد). وهذه الرواية قلبت مفاهيم الرواية البوليسية، حيث ان القاتل، هو الطبيب الذي يروي أحداث الجريمة، وهذه الرواية ثبّتت وضعها ككاتبة، واعتبرت من اهم واحسن رواية بوليسية في القرن العشرين.

و في نفس العام الذي دعيت فيه لزيارة أور التي اعتبرت (مهد الحضارات)، التقت الآثاري "ماكس ملوين" الذي كان يعمل مع "ليونارد وولي" بالتنقيب في مدينة أور في العراق. وقام معها بزيارة مواقع اثرية أخرى، فزارا نبّر والديوانية والنجف والأخيضر وكربلاء قبل ان تعود إلى بغداد، وذلك عندما علمت ان ابنتها مريضة. عادت إلى لندن وعاد معها ملوين، حيث اقدم على خطبتها في اليوم التالي.

وقد قضت عشرين عاماً من حياتها تعيش في مواقع التنقيب التي كان يقوم بها زوجها في الشرق الأوسط. إذ استمر في تنقيب أور منذ عام 1925 حتى عام 1931، وبعدها استمر في التنقيب في مدينة الموصل في (نينوى)، وفي الخابور في سوريا حتى الحرب العالمية الثانية، حيث خدم كضابط احتياط في الطيران في شمال افريقية، فعاش وحده، وكانت أغاثا تخاف ان يخونها ملوين كما خانها آرشي.

وباندلاع الحرب العالمية الثانية قررت آغاثا ان تنتقل إلى العاصمة لندن، رغم القنابل التي بدأت تهطل على لندن حيث دمّرت عدد من الأبنية، هذه بالضبط هي شخصية أغاثا التي تود دائماً ان تكون في قلب الحدث، بعكس سكان لندن حيث ترك عدد كبير منهم المدينة إلى الريف. وخلال الحرب العالمية الثانية، كانت كثيرة الأنتاج، فقد كتبت عدد من الروايات والمسرحيات. و بعد أنتهاء الحرب العالمية الثانية، التحقت بزوجها ملوين، الذي أصبح مدير مدرسة الاثار البريطانية في العراق من عام 1947-1961، وقد كتب عن التنقيب الذي قام به خلال ربع قرن في العراق.

ظل ملوين زوجها المرافق لها طيلة حياتها، حتى توفيت في عام 1976، ولولا الحياة التي خاضتها خلال الحربين العالميتين لما كان هنالك كاتبة مثلها. وقد طلبت في وصيتها ان تعزف عند وفاتها قطعة موسيقية للموسيقار الانكليزي (ادوارد ألغار Edward Elgar) بعنوان (نمرود Nimrud) والقطعة حزينة، و نمرود في الأنجيل هو الصياد العظيم الذي وقف امام الإله، كما ان نمرود هو اسم المدينة الآشورية في القرن التاسع قبل الميلاد، والتي تقع شمال العراق، على نهر دجلة قرب مدينة الموصل. وهذه القطعة الموسقية هي الآن من القطع المفضّلة التي تعزف في ذكرى الأموات. وخاصة الذين فقدوا أو ماتوا أثناء الحروب، وربما طلبت أغاثا هذه القطعة الموسيقية في ان تعزف عند وفاتها، للعلاقة التي تكونت بينها وبين زياراتها إلى تلك الأماكن الأثرية في العراق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: ذهب نور وجاء زيد

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram