حيدر المحسن
وهي شابة، كانت الحياة تمور في دماء لميعة عباس عمارة، السمراء المليحة ذات السحنة الصافية والليل العميق في العينين، بالإضافة إلى اللمعة الساحرة. امرأة مرسلة الشَعر والصوت كان الشاعر بدر شاكر السيّاب يرى في وجهها صورة إحدى الآلهة:
عيناك غابتا نخيل ساعة السّحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء… كالأقمار في نهر
هو الوصف الأكثر شهرة في شعر السياب، وقد نظمه في عينيْ لميعة عباس عمارة. كانت صنعة الشِعر أضفت عليها مسحة من القداسة، فهي تعيش كأنما في غير زمانها، كما أن الماركسية التي اتخذتها مذهبا، وبقيت وفيّة لها إلى آخر العمر، منحتها طاقة روحية تمكنت بواسطتها من صيانة الحرية التي تجري في وريدها كي لا تتبدّد، وهذا هو سرّ تمتّعها بشباب طوال عمرها:
"لو أعرفها الساعةَ/ ساعةَ موتي/ لتزيّنتُ/ لبِستُ الأغلى/ وجلستُ أميرهْ، لأُقابلَ مجهولاً/ خافت منه الناسُ/ وما خفتُ".
كتبت الشاعرة هذه القصيدة في السبعينات، وصدقت نبوءتها، فقد رقدت أميرة في مثواها الخالد في مثل هذه الأيام من عام 2021، وعلى شفاه القرّاء في كلّ مكان تتردّد القصائد التي كتبتها باللهجة العراقيّة، فهي السلاح الذي هزمت بواسطته شبح الموت، حتى النهاية:
"أرد أسألك وبحسن نيه/ أمحلفّك بالله ترد/ربّك بيوم الصوّركْ/كم يوم طينك نكعه
بماي الورد؟/وأرد أسألك/ليش الكمر من سهر بعيونك على أهداب السعد/يتمايل
وتتمايل الدنيا على شفافك غزل/بس من بعد"
وهذا الشعر لا يذهب إليه العامة، لكنه يحضر إليهم في كل وقت، في الحفلات التي تُلقي فيها لميعة قصائدها، أو بواسطة أشرطة التسجيل، ومن يصغي إليها أو يشاهدها وهي تلقي شعرها، يراها قطعة فنية أكثر نفاسة من قصائدها التي تلهب حماسة الحاضرين، ويبدو العالم عندها كما لو أنه توقف وأنه تحت تأثير السحر.
دِيانة الشّاعرة هي الصابئية، لكنها تربّتْ في تلك البلدة الجنوبية، العمارة، حيث كان لدى الناس في ذلك الزمان قدْرٌ من تشدّد ديني يساوي قدْر التسامح، فلم يكونوا صابئيين ولا يهودا ولا مسيحيين ولا مسلمين، كانت توجَد اشتراكية دينية امتزجت فيها جميع الدماء حتى اختلفت وتشابهت، نوع من حرية دينية أعطت الشّاعرة قوّة روحيّة.
كذبتْ مرآتي
صدقتْ عيناكَ
هل كتبت لميعة هذا الشعر لبدر السياب؟ الكلام بسيط، وعميق، كما أن النغمة والنبرة واضحتان، والتأثير فاعل، وهذا ما يمتاز به الأدب الذي تمدّه التجربة بنسغ لا تخطئه العين. إن فيه نظرة امرأة ألِفت الحب وشمّت رائحته مرارا، فهي تتحدث عنه ببساطة خدّرت السياب فكتب فيها أجمل قصائده:
ماذا تريد العيون السود؟ إن لها
ما لستُ أنساه حين أنساها
هذا البيت من بواكير شعر بدر السيّاب، ويؤرّخ للعلاقة بينه وبين لميعة عباس عمارة. الحبّ هو الفعل الوحيد الذي يحدث مرة واحدة، ويظلّ يحدث إلى الأبد. وفي السنين التي ابتُلِي بها بالداء، كان السيّاب يتّخذ من هذا الوله العشقيّ مصدر قوة تجدّد طاقاته، وتنشّط روحه التي تضمحلّ يوما بعد يوم. والغريب في الأمر أن الشاعرة لم تكن على دراية بحبّ السيّاب لها إلاّ بعد موته. وفي أحد الأيام، وكان ذلك بعد حواليْ عقدين من وفاة ملهمها الحبَّ والشعرَ، خاطبته بهذه القصيدة:
"حببتُكَ حتى استحالت دمائي فضيلة/ وحتى وقاني هواكَ/ بروقَ الرعود الجميلة/ فأنتَ بعيدٌ وأنتَ قريبٌ/ تساويتَ عندي/ كبيتٍ من الشعر يملأُ صمتي/ وتمنعني رهبةٌ أن أقوله".
هو شعر نابع من خبرة مقهورة غذّاهما الحرمان والبُعد. هل بلغت هذه الكلمات الرقيقة شاعرنا السياب، بينما كان جسده يسكن أحضان التراب؟ أستطيع أن أؤكد هذا الأمر، وأثبُتَ على تأكيدي، طالما أن الشعر في معناه الأخير هو محاولتنا في أن نكون ونستمرّ في كينونتنا، أي أن نموت من دون أن نموت.