TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > هل كانت الثقافة على حق؟

هل كانت الثقافة على حق؟

نشر في: 8 يوليو, 2023: 10:09 م

ياسين طه حافظ

لم يكن مرور الذكرى المؤية الثانية لميلاد ماركس مروراُ هادئاً. بل كانت الدراسات والكتابات في المناسبة اكثر ربما من المعتاد والمتوقع. كانت فرصة لتاكيد سلبيات النظرية وفرصة اوسع لتاكيد سلامتها والتشكيك بالاسباب الحقيقية لمآلها. ابرز التساؤلات كانت كيف لنظرية صائبة في نظر الكثيرين ومهمة حتى بالنسبة لمن لا يحبذونها، كيف ينتهي بدء تطبيقها بهذه النتيجة الدراماتيكية؟ وماذا غير((اننا توقعنا ذلك ولم يستمع لنا احد...))؟

مايهمنا الآن أن ما قاله ماركس مايزال مهماً ومايزال مساعداً أو مرتكزا لعدد من الفلسفات ومنها المخالفة، وليس لدارس في حقلي الاقتصاد او الاشتراكية الا أن يستند الىالماركسية وماركس مرجعاً ليواصل بحثه. وان الماركسية التي صارت غاية،عدا كونها وسيلة، لا نصارها ما تزال ايضاً معبراً للوصول الى سواها. عموما، الثقافة الماركسية رسمت انعطافة في التوجهات الفكرية ونقلت نظريات مهمة من " اللامرئي" و " الافتراضي المتخيّل" الى الارقام والنتائج. الميثولوجيا الآن في الزاوية. والفلسفة والتفكير فلسفة وتفكير كائنات بشرية وعن مصالحها.

لست مجتهدا نظريا في هذا الشأن ولكني استعين بوجهات النظر التي تيسر لي القرب منها. وما ساقول من رأي وتعليل، هو من باب احترام الثقافة باوجهها المختلفة مؤمنا بانها تتكامل لا تتناحر. وبواجب احترام الافكار والمفكرين، ومعهم من يحملون الشعلة لكشف المعنى، فاقول:

هذا التحول في التفكير الفلسفي كان له اثره في اساليب الكتابة الجديدة. ولعل ديكنز ه. ج. ويلز وبرناردشو ثلاثة نماذج من ثلاثة ازمنة مما انضجه ذلك التحول في النظر الى الواقع والعالم.

نظر ماركس الى التاريخ يتعقب الخطوات الرامية لتحسين حال الانسان، من العبودية الى الشيوعية. هذا طريق شائك يمر عبر تحولات حضارية وتحول في القوانين والافكار. الاداب والفنون دائماً مع المستقبل ودائماً تستقبل الجديد... وتاريخ الادب خلال هذه المسافة الزمنية تاريخ مدارس تختلف الواحدة عن الأخرى وقد نشهد في تحولها عنفاً.

هكذا كانت نظرية المراحل، وهكذا كان دايلكيتك هيجل) العالق حتى الآن باللامرئي(.

لدى ماركس، طردت المثالية بأدب وطُرِد " الوهمي" من هيجل، صيره ماركس اساساً للصراع الطبقي. لقد "أعيد تنظيم" هيجل، بلغة الاحزاب و خسرت المثالية، ومعها الكنيسة، اكبر مرتكزاتيهما.

في الادب ايضاً بدأت الاساليب التقليدية ومضامينها، وخاصتيها في فيض التعابير والاوهام، تنحسر لتُقرأ كتابات تشير الى او تزخر باحتياجات الواقع المزدحم. الواقعية الآن اكثر فصاحة واكثر صدقاً وتضع يدها على الشئ الذي تتحدث عنه، وتقول: هذا!

حين وصلني كتاب الاستاذ رضا الظاهر " ماركس هل كان على حق؟.."، استعرضت ما مضى وقلت لنفسي: هذا السؤال،" ما يزال لم تكتمل الاجابة عنه...".

وهنا أتوقف عند قول الاستاذ الظاهر:" إن العودة الى ماركس هي نتاج الاحداث المترابطة والمتداخلة والمتفاعلة...، أقول إن هذه الارباكات هي نتاج تعثر الرأسمالية في التطبيق، " وسنرى مثل هذا التعثر في تطبيق الفلسفة الاخرى المناهضة لها ايضاً!

فالراسمالية، كما رأيناها، ونراها، تتعثر بازماتها وذلك طبيعي ما دام ارتباطها بالسوق والعالم. ومادام هذان غير مستقرين، فهي غير مستقرة ايضا.

وفي مناقشته الاغتراب الذي، كما يقول الظاهر، صار شائعاً في الأدب والفسلسفة السياسية والتحليل الساسيولوجي والسايكولوجي..، كان ماركس يعده(الاغتراب)، مسألة رئيسة، ومن هنا حضوره الاجتماعي..."

المشكلة، ياصديقي الظاهر، اقتصادية اساساً وانت تعرف هذا اكثر من سواك،لقد اتضح هذا حين صار المزارعون عمالاً صناعيين إذ تراجعت الزراعة وازدهرت الصناعة الحديثة. معنى هذا انهم اغتربوا عن طبيعتهم وعن مهنتهم وعن بيئتهم. ايضاً كثيرمن مثقفي البرجوازية غيروا، من بعد، هوياتهم الثقافية ليلاحقوا الفرص الجديدة المتاحة. وسنرى العديد من العلمانيين المتطرفين في ألمانيا انضموا الى النازية. وعندنا كما تعلم، حصل مثل هذا ويحصل الكثير. ثمة مجال للعتب او للآسف، ولا مجال للإدانة: "الخبز أولاً"!

قلق الانتماء هذا، كما يقول الظاهر، حصل في المؤسسات الاجتماعية، في القانون والحكومة والدين والحياة الاقتصادية. ماركس لم يفته جذر المسألة، هو انطلق من ذلك. فاعطى اهمية اكبر للاغتراب كملاحقة للعيش وخلاص من الجور، ولا نغفل جور البيئة الطاردة. انا افهم الظاهره على انها قلق انتماء يصحب قلق تبلور الطبقة. وهو هذا سبب اشارتي للزراعيين عمالاً صناعيين في المدن.. ولعل مافي رواية " اوقات عصيبة" "HardTimes" لديكنز، يوضح اي مأس مجتمعات في بؤر التعاسة والاستغلال تلك.. ويصحب الاغتراب، بانواعه، مسخ وسلخ الهويات الانسانية وهو ما اوضحه الظاهر في اكثر من موضع في الكتاب: ونخطئ خطأ بالغاً إذا قصرنا ذلك على فئة او طبقة.. الاغتراب اغتراب حيث صحب الناسَ القهرُ أو أُسئ اليهم.

"ان افكار الأشتراكيين والاقتصاديين الاوائل وافكار كارل ماركس ماهي الاحركات عقلية في عمق الاقتصاد للبحث عن الخلاص"، لانقاذ البشرية مما يرهقها، مما تراكم عليها من قهر. والمشاكل المثارة والتي تبدو اخلاقية، هي واقعاً من افرازات عمل مفاصل الرأسمالية. التي حيث تكون فالمنطقة قلقة وسهلة التشققات واحتمال المعانين منها وصبرهم عليها هو فقط لاستمرار الخبز المر.

لكن في هذه المنطقة الوعرة من زماننا، لا نملك افضل منها. والا فاي نظام معروف يمكن ان يكون الان بديلا؟ هل الرأسمالية غير مقنعة؟ نعم، ولكنها الوحيدة الفاعلة اليوم وتدير المشكلات والانظمة ولا نستطيع العيش من غير نظرية واضحة متفق عليها. العزاء هو ان البحوث ما تزال مستمرة ونضال البشرية، معلناً او خفياً، مايزال مستمراً ليلتمع افضل الحلول. والفكر التقدمي يعمل لا من ثورة اكتوبر ولكن منذ بدء الوعي وادراك البشرية لمحنتها!

المسألة الثانية:

يبدو ان الاستاذ الظاهر عزم سلفاُ على رصد الاعتراضات، وحاول ان يظل معقولاً" خطابُ استهانته او تخطئته، وهو يفند وجهات النظر الاخرى. نحن لا ننكر عليه حقه، ولكنها مسألة بحث وبحث في افكار تعود للانسانية كلها. اتمنى ان نمكِّن انفسنا من محبة الثقافة كلها، ومن النظر باحترام واحد او متقارب، أو في الاقل بلا استياء، لافكار الباحثين الاخرين فهم مفكرون ولا اظنهم لايتمنون الصواب.

اعطى الكاتب اهتماماً واضحاً لفصل: "المنظور الليبرالي للمجتمع المدني". وهذا يعني المفكرين: توكفيل وهنا ارندت وهابر ماس.. لا باس من تصويب ما نراه خطأ، على ان نتذكر وباحترام، ان هؤلاء مفكرون وشَغَلهم الموضوع وحاولوا تحقيق اقصى قدر من الحرية. والاوائل منهم فضلوا المجتمع المدني على الدولة وظلوا يحاولون تقليص سطوة السلطة العامة. والاستاذ الظاهر يعلم ان "مثلث برمودا" يقع بين الدولة والفرد ونحن ثقافياً وفكرياً لا نستطيع ان نتخلى عن الفرد. اما انهم ينسحبون الى مواقعهم من بعد، فهي هذه تراجيديا الكفاح البشري ومضمون، ربما ثلاثة ارباع الادب، ان يضطروا للانسحاب، والتفاهم مع العدو، أو، كما يقول الظاهر يتضرعون للاستبداد. المثقف لا يستطيع اكثر من هذا لانه ليس طبقة وكونه مناضلاً، فهذا لا يعني دائماً ان يموت. مع كل الاحترام لالتزاماتنا الفكرية والاجتماعية، العصر يفرض علينا التجاوب الانساني المَرِن مع المتغيرات وان يكون تفهمنا اليوم للمختلف اكثر. الاختلاف غير العداء والاختلاف ايضا غير الكراهة الاختلاف توسع في الثقافة.

الخط الليبرالي عموماًهو خط ثقافي في وجهه العام وفي طبيعته العملية. وبحكم طبيعة ذلك التكوين هم غير مجبرين على ان يكونوا عدوانيين كما ضد خونة، بل ان يكونوا متعاطفين، متفهمين، "مناضلين" لا يملكون اسلحة مادية او قدرات صراع مع سلطة، وهو فارق يشفع لفض المواجهة.

اولاء الليبراليون، وسواهم ضمن دائرة الردَّ، حاولوا إيجاد حلَّ او سبيل خلاص. "وكانوا يلتقون ويعملون في الاجواء المشتركة للرأسمالية".

من هنا ادعو لاحترام مسعاهم وان نتذكر، ونحن " نسقطهم" ان الراسمالية من اجل مصالحها تزيف الاخلاق والسلع. ولن يتوقف فعلها عند حد. وقد شهدنا ماركيسيين زائفين في مواقف رثة. الرداءة واحدة في الظرف السيء او الاستلاب. صعب بل غير صحيح ادانتهم، او ادانة فريق ما، بايقاف التقدم. التقدم محصلة تاريخية ولا احد يمرّ من دون دفع ثمن، مثلما لكل احد دور ونسبة من الايجاب.ما كل خلاف عداء يستوجب رفضاً. كانوا مفكرين وكانوا نخباً فريدة لمجتمعات متورطة في اشتباك يغلفه غموض كثير، ضمنه، بقايا الاقطاع والعيوب المدمّرة للرأسمالية الجديدة ذات القيم القلقة. ارستقراطية نظيفة واخلاقية، لم نتوطن ولم تترسخ بعد، وفكرها المخالف، على ماهي عليه، معرقل وغيرمريح ولكنه ايضاً ليس معادياً. هي مسيرة ولا بد من ان تمرّ بمناطق تستوجب حذراً في التعامل. " ثمة الكثير من القوى خارج سيطرة الدولة"، تقول في ص152. واقول ثمة الكثير من الافكار خارج الفهرسة التاريخية. التاريخ يعمل علنا ويعمل سراً ايضاً! ثمة ماهو خارج التسلسلات المعروفة وما دامت هناك ثلاثة مصادر، واظنها اكثر، في المجتمع المدني هي: الاقتصاد والمجتمع والثقافة – بحسب الظاهر – فعلينا توقع اختلافات رؤيوية وصراعات اجتماعية غير محسوبة من تداخل اشكالات هذه الثلاثة، وهي مسألة تعرفها انت بحكم اهتمامك اكثر مما اعرفها. ان الليبراليين، كما الاشتراكيين ظلوا يواجهون حقيقة ان الراسمالية، كاي نظام، لا تستطيع ان تتجاوز الصفات المتأصلة في طبيعتها.والمواجهات الفكرية تتعامل مع تلك الطبيعة بمرونة، لانها لا نستطيع غير ذلك. وهنا يصبح صعباً حشر الساعين للخلاص، ليبراليين او سواهم مع الاعداء، فقط لانهم يخالفوننا. لذلك سأعيد سؤالك: هل كان ماركس على حق، واقول: هل كانت الثقافة في جملة مسعاها على حق؟ الصعب واقول: هل كانت الثقافة في مجمل مسعاها على حق؟

مايستوجب التقدير ان الكاتب تتبع ثقافة الاشتباك والاعتراض او الرفض واضاءها بصبر، وبكل ادب الباحث المحترم.ظل يرتجي من الثقافة الخلاصوهو يعيد حساباتها من اجل رؤية واضحة لما قال ماركس، ماركس الذي كان ينظر للبشرية وما هي فيه من مشكلات تستوجب حلاً...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: ذهب نور وجاء زيد

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram