ستار كاووش
خرجتُ من المقهى المحاذية لمحطة قطارات بروكسل، وهيئتُ نفسي للمضي قدماً في الشوارع والمنعطفات، كي أكمل رحلتي مع الجداريات التي رُسِمَتْ على جدران المدينة. وما أن تحركت بضع خطوات حتى انتبهتُ الى سقف البناية الملاصقة للمحطة الذي تناثرت عليه بعض الأشكال الغريبة،
والتي لم تكن سوى أشكال السنافر الشهيرين وقد غطت كل السقف، رفعتُ رأسي وتأملتُهم وأنا أستعيد مقالبهم في المسلسل التلفزيوني الشهير. تركتُ السنافر يتقافزون على السقف، وإنطلقتُ نحو شوارع المدينة التي بدت كإنها تفتح ذراعيها وتبتسم وهي تدعوني لإكمال رحلتي مع أبطال القصص المصورة، فبادلتها الإبتسامة، وأنا أفكر بالفنانين الذين رحلوا وتركوا بين أحضانها هذا الأرث من الجمال. ياللمدينة التي تشبه امرأة جميلة ومرحة، وفوق كل هذا ترتدي فستاناً مطرزاً بالقصص المصورة.
لا يمكن لأي عاشق للقصص المصورة إلا أن يعرف شخصية سبيرو، هذه الشخصية المذهلة التي تتصدر قائمة الكوميكس البلجيكية، لذا عليَّ أن لا أفوِّت هذه الفرصة وتوجهتُ الى شارع فان غراتسي، لأقف أمام الجدارية التي تمثل سبيرو بشخصيته المحبوبة ومغامراته التي نُشرت في المجلة العريقة التي تحمل إسم سبيرو أيضاً. وهو شخصية مغامرة وجريئة وكان يطارد اللصوص بناءً على عمله كصحفي، وقد إشتهر ببدلته الحمراء مع أزرار ذهبية. وقاسمه تلك المغامرات صديقه فانتاسيو كذلك سنجابهم سبيب الذي لا يتوقف عن الحركة، وهم يحاربون كل ما هو سيء في هذا العالم. ظهرت شخصية سبيرو سنة ١٩٣٨وقد تناوب على رسمها العديد من الرسامين مثل روب فيل وأندريه فرانك وجيجيه الذي أضاف شخصية فانتاسيو. وكانت مجلة سبيرو من أكبر مصادر الإلهام لفن الكوميكس في العالم بما في ذلك المجلات العربية ومنها مجلتي العراقية التي صدرت سنة ١٩٦٩. كما لم تكتفي بتأثيرها على الكثير من المجلات حول العالم، بل ان شخصية سبيرو ذاتها قد أثرت على العديد من شخصيات القصص المصورة. وتعتبر الفترة (١٩٤٥-١٩٦٠) هي الفترة الذهبية لهذه المجلة. وسبيرو هو شخصية الكوميكس الوحيدة التي إختارتها الأمم المتحدة كسفير للدفاع عن حقوق الانسان سنة ٢٠١٨.
لم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك وأنا أقف بعد بضعة دقائق أما شخصِيَّتَي كويك وفليبك (نُشرت في مجلة سمير المصرية بـإسم مشمش وبرقوق) وهما من ابتكار الرسام العبقري هيرجيه، وكانت مغامراتهما تُنشر في صفحة واحدة فقط، حيث يتآمران غالباً على شرطي الحي، أو على أطفال الجيران، وإن لم يجدا أحداً للايقاع به، فلا يترددان لتدبير المقالب لبعضهما.
إبتعدتُ عن جدارية كويك وفليبك وهما يراقبان الشرطي الذي كان يظن بأنه هو الذي يراقبهما، وسحبت خطواتي نحو شارع فاس هاوس، حيث يقف البطل لاكي لوك على سقف أحد البنوك متربصاً بعصابة دالتون، الذين يصاحبهم الفشل الذريع دائماً في مواجهته بسبب ذكائه وسرعته في سحب مسدسه. وتعتبر هذه الجدارية من أوائل الرسومات التي أخذت طريقها على جدران مدينة بروكسل. يظهر لاكي لوك ساحباً مسدسيه فيما يبدو ظله على الحائط بيدين خاليتين تتأهبان لسحب المسدسين، وهي اشارة طريفة الى أن لاكي لوك كانَ أسرع حتى من خياله. وقد نال لاكي لوك شهرة واسعة في كل العالم بسبب طرافة قصصه مع حصانه جولي جمبر الذي يفكر ويتكلم مع نفسه بصوت غير مسموع. وقد ظهرت هذه الشخصية لأول مرة سنة ١٩٤٦ في مجلة سبيرو. وقد أخذ هذا البطل المحبوب طريقه الى الكثير من أفلام الرسوم المتحركة.
حين تذكر إحصائيات مؤسسات النشر إنه تم بيع أكثر من ثلاثمائة وخمسين مليون نسخة من قصص أستريكس وأبوليكس المصورة، فيبدو إن الأمر قد تجاوز كل التوقعات واقترب من الخيال. فمن لا يعرف هذان المحاربان اللذان ترجمت مغامراتهما الى كل اللغات، هذه القصص المليئة بالطرافة والجاذبية والدروس والمعلومات التاريخية، يضاف الى ذلك الذكاء في كتابة السيناريوهات الممتعة. وقد ظهرت هذه السلسلة لأول مرة سنة ١٩٥٩ في مجلة بيلوت، لتنتشر في كل انحاء العالم. وها أنا الآن أقف أمام جدارية أستريكس وأبوليكس التي أخذت مكانها أيضاً في شارع فاس هاوس، تأملتهما وهما ينطلقان بسرعة وسط الكثير من المحاربين وإستعدتُ المغامرات والتفاصيل المذهلة، ثم تركتُ هذان المغامران خلفي وأنا أعيد مع نفسي جملة أستريكيس التي رددها مئات المرات في مغامراته ضد الرومان (يالهم من غريبي الأطوار هؤلاء الرومان).
بعد جولة طويلة وسط هذه الشخصيات وغيرها الكثير من التي دخلت تاريخ الكوميكس قبلَ ان تستقر على جدران المدينة، مضيتُ وسط الزحام وغبتُ بين الناس، وأنا أفكر بأن الجمال ليس فقط في قاعات المتاحف، بل يمكننا أن نراه في ملامح هذه الفتاة التي تعبر الطريق، وفي إبتسامة ذلك النادل في المقهى القريبة، نعم يمكننا بالتأكيد أن نتحسس الجمال في شوارع المدينة وعلى جدران البيوت، وبالتأكيد في قلوب الناس الذين يحبون مدنهم ويجعلونها كل يوم أجمل.