د. علي سرمد
ثمة سؤال نقدي ذات طابع أصولي يطرح نفسه عند أغلب متخصصي النقد والدراسات الأدبية، وجوهر هذا السؤال يدور لمَ لم يؤسس العرب منهجاً نقدياً حديثياً لقراءة النصوص الأدبية ما دمنا نحن أهل للبلاغة؟
ويأتي الجواب جاهزا من طريق فكرة التأصيل داخل التراث، وهذا التأصيل يحمل بين طياته أزمة هوية ونكران الاعتراف بالآخر. غير أن الجواب الحقيقي لهذا السؤال نابع من حقيقة غاب عنها الكثير، لأنهم حين يدرسون مناهج النقد يتناسون بأن النقد الحديث أغلب أصوله فلسفية، وما دامنا بعيدين عن الفلسفة كمنهج عقلي يؤسس لوعينا فمحال أن نؤسس أيَّ نظرية نقدية أو أدبية، ومن يتطلع إلى تلك النظريات بعمق معرفي يلمح هذا الأمر بسهولة، فضلاً عن انمحاء الحدود بين العلوم قاطبة.
إن الجواب السابق الذي يرى بأنّ النقد الحديث أصوله نابعة من تراثنا، هو ما أطلقتُ عليه السلفية النقدية. وما أعنيه بالسلفية النقدية هو قراءة النقد قراءة أيديولوجية ، بحجة أن ما ينتجه الآخر له أصول في تراثنا من جهة، ومن جهة أخرى يرون أن هذا النقد بعيد عن ثقافتنا ونصوصنا، وهنا يبرز التناقض أعلى مراتبه، لأنّ المشتغلين فيه يحاولون جاهداً إسقاط ايدولوجيتهم على قراءة النصوص، وهذا يعني أن النقد لا يحرّك لديهم ملكة الوعي بما هو علم، بل على العكس من ذلك تماماً. وهذا الأمر أدى الى تخلف الفعل الحقيقي للنقد سواء على مستوى التفكير أو المجتمع، أو على مستوى فاعليته للتغير، وجزء من هذه السلفية أيضا بعض الدراسات الاستشراقية التي حولت هذا المفهوم الى نظرية مؤامرة كلَّ همها النظر إلى الآخر بوصفه سلباً. فهذه باحثة تكتب بالنسوية وترى فيها أن المناداة بحقوق المرأة لهو مقولات عبثية لأن إخراجها من القطيع مناف لفكرها الأصولي، ومن ثم تبدأ بالتحامل عليه، وذاك باحث يكتب بالنقد الثقافي من أجل أن يضم مجموعة من الشعراء من طريق من أسميناه بعنف التأويل إلى ايديولوجيته. فما المعنى الذي يستفاد من كل هذه الدراسات التي ملأت رفوف المكتبات أتربة. وهل يمكن لهذه الدراسات التي تحمل بين طياتها بعدا سلفيا أن تؤسس منهجا نقديا؟
إن هذا العنف من التأويل والانغلاق حول الذات ورمي الآخر بالسلب ليس بالأمر الجديد، لأنه يتعلق بالفكر الأصولي الذي بني عليه الفكر العربي المنافي للتغيير، ولو عدنا للماضي البعيد، نجد الفيلسوف الكندي معلقا على الصراع الفكري الذي دار بين المعتزلة وبين أولئك الذين ينظرون إلى التراث الفلسفي الاغريقي بأنه هرطة وزندقة قائلا: ((ينبغي لنا أن لا نستحِي من استحسانِ الحقِ واقتناءِ الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناسِ القَاصِيةِ عنا والأمم المباينةِ لنا، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق، وليس ينبغي بخسُ الحق، ولا تصغيرٌ بقائلهِ ولا بالآتي بهِ، ولا أحدٌ بخسَ بالحقِ، بل كلٌ يشرفهُ الحقُ)).(رسالة الكندي الفلسفية).
إن قول الكندي السابق يمثل على حد تعبير حسين مروة موقفا فلسفيا حقيقيا، لأن الكندي نظر إلى التراث الفلسفي بوصفه نتاجاً فلسفياً عالميا مشتركا أسهمت في صنعه مئات العصور، أي نظر إليه نظرة بريئة من التعصب العرقي والديني. (النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية، ج4: 23)
هذا الصراع ذاته يدور اليوم لكن بمسميات مختلفة، فبدل أن يرمى المشتغل بالفلسفة بالزندقة من قبل كهنة الدين من أجل الحفاظ على مكاسبه وأصوله المغلقة، بات اليوم يتهم بالتماهي مع الآخر ورفض فكره، وهذا نوع آخر من السلفية، لكن بمسميات أخرى. وهنا يبرز لدينا تناقض على مستوى الفلسفة والنقد معا. إذ يرى الاصوليون المحدثون بأن الغرب أخذ الفلسفة عن طريق العرب، ومن ثم أعادوها علينا في عصر لاحق، بمعنى أنه إذا كانت أصولها عربية كما تقولون لماذا ترفضوها بحجة أنها دخيلة على ثقافتنا وايديولوجيتنا؟ وهذا التناقض نفسه يدور على مستوى النقد لا سيما أولئك الذين يؤمنون بالتأصيل بأن أصوله عربية، بمعنى إذا كان النقد الحديث كله أصوله عربية فلماذا تتحاملون عليه وتعدونه بعيدا عن قراءة نصوصكم؟
وفي هذا المساحة أقول مع الكندي بأن النقد أيضا تراث عالمي ينبغي أن ننظر اليه خارج أي تصور ايديولوجي مسبق. وأقول في الوقت نفسه ناصحا أولئك الذين أسميتهم بدعاة السلفية النقدية أن النقد آلية مرنة لقراءة النصوص ويمكن أن يرتّب حسب أولويات العصر من غير بناء أي تصوّر مطلق للحقيقة، لأن النصوص والثقافة والقيم بعمقها نسبية، لأن بناء أي فكر لا بدّ أن يمر عبر اللغة، واللغة بطبيعتها لا يمكن أن ترتهن تحت أي معنى مطلق، وهذا الأمر نابع من طريق علاقاتها واختلافها فيما بينها.
وفي هذه المساحة يمكن القول أنّ السلفية النقدية في قراءة النصوص الأدبية على وفق تصورات أيديولوجية مسبقة بعيداً عن المجال المعرفي والعلمي الذي ينبغي التحلي به، أي النظر إلى النصوص من باب الخير والشر أمر في غاية الخطورة وينبغي التصدي له بقوّة، لأنه لا يختلف عن السلفية الأصولية التي ترمي الفكر الحق فيما وراء التاريخ، وتنظر إلى الاختلاف على أنه سلب.