TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > بَلَدَانِ لوجه واحد

بَلَدَانِ لوجه واحد

نشر في: 10 يوليو, 2023: 11:42 م

مريم قاسم

شاء القدر أن اكون وليدة بلدین! ثلثاي من إیران، من أمّ فارسية و ثلثي الآخر من أب عربي (عراقي)...؛ وعلى الرغم من التقارب الجغرافي، الثقافي و الديني_ نوعًا ما _ إلا أنه لم یكن من السهل التأقلم في البیئتین، و لا أريد الكلام عن المجتمع الإيراني و عن شعبه المختلف عن قبلية مجتمعنا التي تحكمه (العشيرة) فهذا الموضوع متناول في كتب و مصادر كثیرة.

فتجربتي الاجتماعية والثقافية التي عشتها في سنوات الطفولة محتفظة بذكریات و طقوس (أعياد نوروز)، و(ليلة یلدا) و (احتفالات دينية) إضافة إلي دراسة البكالوریوس في بغداد، و إكمال الدراسات العلیا في ایران، و انا استمد مصادر اطروحتي من أستاذي المشرف من العراق،الدكتور أحمد الزبيدي.. أقول: إنها تجربة جعلتني حقاً أعیش تجربة مركبة: اجتماعيا وثقافيًا ولا أقول دينيا فالمذهب الذي (ولدت) عليه هو هو سواء من الأم أو من الأب بل سواء في العراق أو في إيران..

و لم تخلُ هذه التجربة من معارف و أصدقاء من هذا البلد أو ذاك، مع إنها لم تكن لي ابداً البلد الوحيد.. أو لا أعرف بلدًا أصليا وآخر ثانويا (الآخر) لكني كنت اسأل _ دائماً_ أمي و وأخوالي، ماذا عن الماضي عن أيام (الشاه) ماذا عن الملكية؟، و كانت ترد مبتسمة و هي تسرد ذكریات الطفولة بشعور من السعادة و الرضا، وحين توجهت بالسؤال نفسه إلى الأب تأمل قليلا بصمت وراح يحدثني عن ندم العراقيين على قتل (الملك) والمجيء بـ (العسكر) ثم عرجت على ذاتي لأسلها فوجدتها لا هوية خاصة لها بالذكريات.. " لا تتذكر غیر (الحجاب) و (الحرب) و بعدها خرجنا (هجرنا) من مدينتنا (عبادان)، و لم نرَ من بعدها السعادة..هذا الجواب المختلف تماماً عني هو لصديقتي الإيرانية (المثقفة) عندما سألتها ماذا عن تلك السنة اي (1980)،و هي الآن تبحث جاهدةً عن دار نشر ايرانية لتطبع ترجمتها لإحدى الروايات العراقیة من دون حذف و توهيم تفرضه (السلطة) الإيرانية...

وربما اشتدّت لديّ التساؤلات مع ظهور الاحتجاجات الأخيرة في إیران، و أنا أتردد إلى جامعتي لاختیار عنوانا لأطروحة الدكتوراه، و أشاهد احتجاجات الطلاب في الجامعة، و عامة الناس في الشوارع، حتى وجدت نفسي أدرس في الدكتوراه (السلطة البطرياكية في الرواية..)، و في تلك الفترة العصیبة مارست السلطات الايرانية وسائل صغيرة و كبيرة لقمع الاحتجاجات: من غازات مسیّلة للدموع، و بنادق هوائية، و رمي الرصاص كل ذلك أدى إلى الكثیر من الشهداء و الجرحی و المعتقلين..

وعلى الرغم من حجب الإنترنت و حظر المواقع التواصل الاجتماعي إلا أن (الحقيقة)لا تحتاج معرفتها إلى عناءٍ طويل.. أعتقد الأمر واضح تماماً بالنسبة للجميع، فالتجربة هذه مشابهة لانتفاضة (تشرین) مع اختلاف الدواعي فالنتیجة واحدة.. هل تتفقون معي لو قلت: تشابه (الدين) أدى إلى تشابه (السلطة) ومن ثم تشابه (المحتجين).. كاد (الدين) أن (يوحّد) هموم الأحرار!

غير أن التساؤل غير الممل، هنا، أين موقف المثقف من السلطة؟ و من يقف أمام كل هذه القسوة؟ و أي نوع منهم؟ فالمثقف النخبوي منشغل بنشر مؤلفاته و آثاره وهو يراقب عدد الاعجابات و المشاركات وما يعتدل له رأسه من كلمات مدح وإطراء أو مدح الآخرین له في التعليقات بمواقع التواصل الاجتماعي على منشوره الأخير (آخر ما صدر لي)، فليست أخبار القتل والموت و القضايا الاجتماعية بمستوى اهتماماته (الثقافية)... والمثقف (الموظف) حتى وإن كان وزیراً! لا عليه إلا في وظيفته وانتهاء الدوام اليومي.. وإن انتهى الثوار كلهم، فهو یعد الأيام منتظراً الراتب الشهري..

وأما المثقف (المجتمعي)_ كما يحلو لي أن اسميه _ فهو من وجد نفسه ملزماً تجاه المجتمع في كل قضایاه و یكون حاضراً دائماً في مقدمة (الساحة).. إنه المثقف الذي تعلم فن الزحف على الأرض...هذه الانماط من المثقفين هي تنطبق علی مثقفي البلدين (الجارين)!.. ولا شأن لي بمصطلح غرامشي و (المثقف العضوي) لأنني لم أبصره بحجم المصطلح في البلدين.. ولربما للتشابه السياسي أثره في (غياب) حضوره ومن هنا أكتفي بوصفه بـ (المثقف المجتمعي) الذي يرقب عن كثب التحولات والظواهر المجتمعية ومقارباتها السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية..

أما عن المثقف المؤدلج، فیمكن القول بأنه لا مكانة له عند الشعب الإيراني، و لا أبالغ ان وصفتهم بأنهم (منبوذین) من قبل المجتمع، فالشعب الإيراني بدأ (يتحسس) من (الأیدیولوجیا) و كأنهم ذاقوا مرارة الطعم الأیدیولوجي (الديني / المذهبي) و عدم الجدوی منها بعد ما رأوا ما رأوا من النظام الذي يفرض وصاياه بإرادة (الله).. ولعل الحال نفسها وجدتها في العراق ولكن تكاد أن تنحصر المواقف الجريئة من ذلك المؤدلج في مواقع التواصل الاجتماعي..فضلَا عن ذلك أصبح مفهوم (المثقف) الحقيقي عند الشعب الإيراني هو مرادف لـ (التنویري)، فلا یكون المثقف إلا تنویریاً و لا یكون تنویریاً إلا ان یكون متجرداً من الأیدیولوجیة.. وحين بحثت عن سبب اقتران المثقف بالتنوير وجدت أن خاصية التنوير تعني التضاد الكلي مع خاصية (الدين) إذن المعارض تنويري حسب وصفهم ولعل في التوصيف تبسيط للمصطلح.

فالأمر إذن لم یعد یحتاج إلي الكثیر من التأويل فالمثقف المؤدلج (الشيعي) هو من یری الاحتجاجات مدعومة من (امریكا) في ایران و یری نظیره العراقي ما يراه (جاره) الإيراني فوصفوهم بـ (أولاد السفارة) و (الجوكریة).. لابد أن تكون أصول (العدو) واحدة مادام العداء لـ (دين واحد) و (سلطة واحدة)

لا أريد أن أختم هذا المقال بمثالیة فارغة لكن كل ما یبقی في ذاكرة التاريخ و الشعب هو ثورات الشعوب حتی و ان باءت بالفشل، وحين يشاء القدر وأتزوج فارسيا سيسألني أولادي عن أحوال أخوالهم العراقيين وسيتحدث لهم أبوهم الفارسي عن حال متشابهة.. وسنرثي أوطاننا معًا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. Anonymous

    مقال مهم ممتلئ بالشجاعة والجرأة والصدق والتأويل

  2. Anonymous

    مقال عظيم جداً وذات التفاته أكثر موضوعية وأهمية رغم كثرة المثقفين الا انهم فعلاً قد انعدام حسهم الإنساني في هذه القضية.. اصبتِ القول يا مريم في حجم هذه القضية المهمه واقول بكل مصداقية قد وضعتي النقاط على الحروف في هذه المسألة واحسنتِ الطرح.

  3. سارة عبد الجليل

    مصطلحات لطيفة واللتفاتات منطقية لما يدور في الساحة أجدتِ كل ما تناولت وتحليتي بالشجاعة التي لم يتحلى بها معضم كبار كتاب ومثقفي البلدين.

يحدث الآن

الصحة العالمية تحذر من خطر حدوث وباء عالمي جديد

طقس بارد ينتظر العراق في هذا الموعد

دخول أكثر من 5 آلاف لبناني للعراق خلال 10 أيام

تعطيل الدوام الرسمي 7 أيام في العراق للمكون الإيزيدي

الرئيس الإيراني: سنرد بشكل أقوى وأشد إذا قامت إسرائيل بالرد علينا

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: وصية تولستوي

العمودالثامن: عندما يسخر البرلمان من العراقيين

العمودالثامن: نزاهة صينية واخرى عراقية

"حركة تشرين" وأثرها في العراق

"الفوهرر" و"الدوتشي" و"القائد الضرورة"، وتحويل البدعة إلى لاهوت

العمودالثامن: نزاهة صينية واخرى عراقية

 علي حسين مدهش هذا الوطن، نادراً ما تجد فيه هذه الأيام مسؤولاً أو سياسياً لا يسرق، أو يرتشي، بل ونادراً ما تجد فيه حزباً أو تنظيماً تواضع ودخل العملية السياسية من أجل الخدمة...
علي حسين

قناطر: ما تسلبك الريحُ.. ما يتبقى منك

طالب عبد العزيز تسلبك الريحُ الشرقيّة الرطبة متعتك بأوّل الخريف، وبالزهر الذي تفتق توّاً على خاصرة السِّياج، ظلت تغرف من البحر ما شاء لها الى الطاولة، حيث تجلس، تشاركك فنجان القهوة، فيصبح مالحاً، وتحتلُّ...
طالب عبد العزيز

التيجاني الطيب: مسؤول شيوعي وشيوعي مسؤول

د. حيدر ابراهيم علي حين يكتب صحفي في تصريح من التيجاني الطيب:صرح مسؤول في الحزب الشيوعي أو صرح مسؤول شيوعي؛يمتلكني الغضب الشديد. واسخط علي عدم جودة صياغته،لأنه في هذه الحالة عليه أن يكتب:صرح شيوعي...
د. حيدر ابراهيم علي

لا ضربة "قاضية" حتى الآن.. و"النزال" قد يحسم بالنقاط!

محمد علي الحيدري تكثفت في الأيام القليلة الماضية الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة الأميركية كمالا هاريس نائبة الرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن، ودونالد ترامب الرئيس الجمهوري السابق.وتشير لوحة هذا النزال الانتخابي الشرس إلى أن أياً...
محمد علي الحيدري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram