حيدر المحسن
أجرى أحد ملوك الصين مسابقة بين الرسّامين، وأعطاهم مهلة سنة لإنجاز اللوحة، تاركا لهم اختيار الأبعاد وطبيعة اللون والموضوع، وانهمك الجميع في العمل منذ اليوم الأول، لكن ما أثار التساؤل والاستغراب أن الفنّان الأشهر في البلاد،
ومعلّم الجميع فنّ الرسم بالطريقة الصينيّة، لم يظهر على هذا الرسّام أنه منشغلٌ في إعداد التحفة الملكيّة، فكان يُشاهد في الأسواق والمحافل والحانات ودور اللهو، في الليل والنهار، فمتى يعمل إذن والأسابيع تمضي والشهور، وها هي المهلة تنقضي وحان موعد تقديم اللوحة إلى جلالته. فازت لوحة المعلّم الأول رغم أنها لم تستغرق منه الكثير من الوقت، فبدل أن يرسم بيده تركَ البارئَ من عليائه يفرشُ الألوانَ والخطوط والتفاصيل على قماشةٍ ثبّتها بين غصني شجرة في الغاب، وعندما انتهت السّنة رفعها من مكانها، وعمل لها بروازا خشبيا صبغه بالأزرق، وقدّمها إلى الملك. لقد اشترك في رسم اللوحة الطقسُ والريحُ والشمس والقمر بضيائه والطيرُ بتغريده، فكيف لا تكون إعجازا في الخلق لا يقدر عليه البشر؟
في الثلاثاء الماضي (3 تموز يوليو 2023) ظهر مقال (أرض غودو) في صحيفة الشرق الأوسط، وأنقل لكم منه: "ثمّة نظريّة أمريكيّة في فنّ العمارة تقول إن كلَّ جديد قبيحٌ حتما، والمبنى الذي عمره نصف قرن وأكثر يكون باهي الصورة وإن كان دكّانا مهجورا في سوق الخردة. الجديد والمشغول بالمال الجديد، في أيّ مكان في الدنيا، ولأنه من صنع بني البشر، فهو مكانٌ عدمٌ يعيش فيه غودو وإخوانه، بينما مرّت على القديم يد الزمان _ أي رسمته فرشاة الله التي لا تُقلّد ولا يكون لها بديل، ولهذا السبب تحرص الأمم المتحضّرة على الطريق القديم وغباره، وعلى الساحة القديمة...إلخ". ظهرت هذه الكلمات في الصحيفة دون لفظ الجلالة، فصارت الجملة بهذه الصورة: ((بينما مرّت على القديم يد الزمان، أي رسمته فرشاة لا تُقلّد ولا يكون لها بديل)). سبب الحذف طباعيّ على الأغلب، لكن المعنى صار غير واضح، ولا أخفيكم الأمر أني لم أنتبه إلى هذا النقص في المقال في المرّة الأولى وأنا أراجعه على الموقع الإلكتروني للصحيفة، ولم أنتبه كذلك عليه في النسخة الورقيّة المطبوعة. في ظهيرة اليوم نفسه كنتُ أغادر مقهى الروضة في الشام، وتوقّفتُ فجأة عند الباب الخارجي للمقهى، وهاتف يصيح فيّ: "أين فرشاة الله؟". عدتُ أجلس في مكاني وراجعتُ المقال منشورا في الصحيفة دون لفظ الجلالة. فكّرتُ عندها أني اقتبستُ روحَ العبارة المذكورة من قصة الرسّام الصيني، وكانت فيها إشارات إلى الإبداع الذي مصدره السماء، أما الزمان فهو غادر ولا يرسم شيئا، وقل إنه يمحو ويشطب، والخلق من اختصاص الروح القدس وحده – التعبير لبرناردشو-.
في كلّ يوم نرى ما تقومُ به فرشاةُ الله على الأحجار والأشجار والمباني، وكذلك على وجوه المسنّين، فهي منحوتة بيد أكبّت عليها في الليل والنهار، حانيةً عليها أزكى عطورها، فكيف لا يكون الفنّ فيها آسرا؟
في بعض السنين صارت لي هواية تصوير الأبواب في بيوت بغداد القديمة، سكونها الحزين يجتذبني ويقودني إلى النعمة التي عاش فيها أسلافي، والخطوط والشقوق على سطوحها تحكي لي قصصهم. الأمر نفسه جريتُ عليه مع الجرّة القديمة (البستوكة)، أبحث عن ألوانها الشذريّة المعتّقة لدى محال الأنتيكات وأصبّ عليها تقديسي، وأصحابها يتنادرون عليّ لأنها لا تمثّل لهم أيّ تجارة فلا بيع فيها ولا شراء، وظهرت مجلة "إمضاء" في أحد أعدادها والغلاف الأول عليه صورة جرّة تعبت عليها كثيرا يدُ الزمان. بعثتُ الصورة إلى أدونيس، وتساءل الشاعر في قصيدة عن نوع الخمرة والعسل اللذين تضمّهما هذه التحفة، وهل هما عصيرٌ تقتاته الآلهة فيُكتبُ لها الخلود؟