ترجمة: عدوية الهلالي
يعيد فيلم (البوهيمي) للمخرج بيتر فاكلاف ملحنا موسيقيا من براغ إلى الحياة مرة أخرى بعد أن ضاع اسمه في غياهب النسيان.. كان الموسيقي جوزيف ميسليفيتشيك معاصرا لموزارت وغلوك وهايدن، ولكن تم محوأثره بشكل غامض من التاريخ بعد تأليفه العشرات من حفلات الأوبرا التي حققت نجاحا على المسارح الأوروبية خلال عصر التنوير.
كان موزارت الشاب شديد الاعجاب بجوزيف ميسليفيتشيك الذي ينحدرفي الأصل من بوهيميا، وكان قد ألف العديد من حفلات الأوبرا وظل لمدة عقدين أفضل موسيقي في أعظم المسارح الأوروبية في القرن الثامن عشر. ويشيد فيلم (البوهيمي) الذي بدأ عرضه في دور السينما الفرنسية في أواخر حزيران بهذا الموسيقي العبقري المنسي.
ولد جوزيف ميسليفيتشيك في براغ عام 1737 لعائلة ثرية تملك العديد من المطاحن وكان الصبي الصغير يحب الموسيقى ولكن والده كان يتوقع منه أن يمارس نفس المهنة التي يحبها، لذلك إنتظر جوزيف موته ليترك لأخيه التوأم مهمة الحفاظ على استمرارية عمل العائلة وغادر ليلاحق شغفه ويجرب حظه في الموسيقى فدرس العزف على الكمان والتلحين في براغ وكتب أول سيمفونياته.
وبعد أن درس مع عازف الأرغن والملحن جيوفاني باتيستا بيسكيتي (1706-1766) في البندقية، كافح الموسيقي الشاب لكسب لقمة العيش من موسيقاه لعدة سنوات، إلى أن فتحت له علاقة غرامية مع عشيقة لأحد النبلاء من البندقية الأبواب المغلقة إذ كان الإنتاج الموسيقي في ذلك الوقت مرتبطًا جدًا بالسلطة لذا قدمته العشيقة إلى أمادوري، مدير مسرح سان كارلو في نابولي، وتم تكليفه بتأليف أوبرا لعيد ميلاد الملك الشاب فرنيناند الرابع.
ثم قدم أوبرا مثلتها المغنية كاترينا غابرييلي (1730-1796) التي كانت نجمة شهيرة في ذلك الوقت دور البطولة فيها، وكان نجاحها بمثابة انتصارله. وهنا انطلقت مسيرة الشخص الذي أصبح ملقبا ب(البوهيمي) وذاع صيته في جميع أنحاء أوروبا. ثم التقى بالموسيقار الشاب موزارت الذي اُعجب به وسأله عن مؤلفاته ويُقال أنه كان سيؤثر بشكل كبير على الموهوبين لو استمرت شهرته، لكن البوهيمي أدمن النجاحات والسفر والعلاقات الخطيرة،ما أدى إلى إصابته بمرض الزهري الخطير فتدهورت حياته المهنية ومات في روما في ظروف بائسة.
ويتيح فيلم السيرة الذاتية هذا الفرصة لاكتشاف وسماع المؤلفات الرائعة لهذا الموسيقي المنسي والتي يخصص لها الفيلم الطويل جدًا مساحة جيدة، خاصة وأن جميع أدوار المغنين تم تجسيدها من قبل محترفين، باستثناء دور المغنية غابريلي التي منحتها السوبرانو سيمونا ساتوروفا صوتها.وهكذا يمكننا سماع أصوات رافايلا ميلانيسي، وإيموك باراث، وجوليا سيمينزاتو، وكريستيان آدم، وحتى فيليب جاروسكي في دور قصير...اما دور موزارت الصغير فقد تم تجسيده من قبل عازف البيانو الألماني الشاب فيليب أماديوس هان.
ويسلط الفيلم الضوء على الإنتاج الموسيقي للقرن الثامن عشرحيث يعيش الموسيقيون في وضع محفوف بالمخاطر في وقت لايعتمد الإبداع فيه على قيمة العمل بل على قوة السلطة. يمكننا أيضًا أن نرى الأجواء غير الاحتفالية للعروض،حيث تستمر فيها الحياة ويمكن للجمهور أن يأكل، ويتحدث دون أي إحراج أثناء العروض،وحيث يتتابع التصفيق والاستهجان المبكر في جو يذكرنا بملاعب اليوم.
كما تدورأحداث الفيلم حول مؤامرة رومانسية بين البوهيمي والكونتيسة التي أسيء معاملتها من قبل زوجها الغيور، ويغرق الفيلم دون محرمات في الأجواء المتحررة في ذلك الوقت، حيث تظل المرأة محصورة في دور الزوجة أو العاهرة، وحيث الحرية، ولكن أيضًا عنف المجتمع الذي لا يزال يتسم بشدة بعلاقات الهيمنة.
ويحفل الفيلم بالديكورالجميل والأزياء الأنيقة والممثلين الرائعين، ومع ذلك فقد قوبل ببعض الانتقادات لأنه ركز بشكل كبير على الفسق وقلل من التعمق في الجانب الموسيقي كما قلل أيضا من المشاهد التي تجمع بين البوهيمي وموزارت على سبيل المثال وتم تقليصها الى مشهد واحد فقط،. إذ كان الفيلم سيكتسب وضوحًا أكبر لو كان أقل تركيزًا على الحياة الفاسدة للموسيقي، وأكثر جرأة في عرض نتاجات الموسيقار الابداعية.
ولكن لماذا سقط الموسيقي جوزيف ميسليفيتشيك وأعماله (ما يقرب من 30 أوبرا وعشرات من السمفونيات واثنين من الموشحات الدينية المنسوبة ظلماً إلى موزارت) في طي النسيان؟ وهل يمكن للتألق المبهر لمؤلف (الناي السحري) وحده أن يفسر محو أثر هذا الموسيقي العظيم؟ربما لايزال السؤال قائما على الرغم مما حاول الفيلم ان يقدمه عنه ليعيده الى واجهة الحياة.