طالب عبد العزيز
حين فقد خورخي لويس بورخيس بصره قال:" الآن يمكنني أنْ أعيش أحلامي بإلهاءٍ أقل" قال ذلك لأنَّ الحياة لم تعد تملك إلا القليل من المتع له، ففاقد البصر تشحُّ أوتنعدم متعُه. أنا، لم أفقد بصري، بعد، ومازلت أرى في السماء الكثير من فسيفساء وزخرف منارة السراجي، وكانني أتفرسُ بعيني هذه مجلس شيوخ واعيان بيت الملا طه وبيت الحاج صالح العرب(الاول من السنة والثاني من الشيعة) ومن انضم الى مجلسهم، وصارت المنارة تظللهم، وهم ينفقون تحت حائط المسجد أضحيات وأمسيات أعمارهم، منذ ثلاثة قرون ونيف.
استطاع الشيخ العلامة خالد الملا، وهو إمام وخطيب جامع العبايجي في البصرة قبل اتخاذه بغداد مستقراً نهائياً مشكوراً تبيان حيثيات (هدم) المساجد مستعيناً بكتب السنن وأحاديث السلف، واحاط الامر من كل جانب، وقال بأن منفعة الناس وتسهيل سبل حياتهم لها حرمة عند الله، وهو في ذلك يقف الى جانب المحافظ، رئيس حكومة البصرة بوضوح. ولا مِراء ولا زلفى لأحد إذا قلنا بانَّ هدم المنارة وتوسعة الشاعر رغبة وحاجة عند كل مستعمل للطريق، من السنة والشيعة، فالمنارة كانت تعترضه، وتتسبب بتعطيل الناس عن الوصول الى أعمالهم، ولا ضرورة في البحث عن اسباب ازالتها، لكنْ.
من المعيب جداً، ومن التجني أيضاً أنْ يُفهم فعلُ ازالة المنارة فهماً طائفياً، هذا امرٌ لا وجود له في ذهن ايِّ بصريِّ، لا عند المحافظ ولا أيِّ مواطن بسيط، فالبصريون اجتازوا المحنة هذه، لكنَّ المأخذ على إدارة المدينة انها لم تف بوعدها حين قالت بأنَّ المنارة ستزال بطريقة هندسية وسيتم ترقيم طابوقها واحدة واحدة، ومن ثم سيصار الى إعادة بنائها ثانية بأجمل ما يكون، ولو حدث هذا لخفف كثيراً من وطأة فعل الازالة.
وكحلول: يتحدث البعض عن شقِّ نفق تحت المسجد وتسهيل المرور دون المساس به، فنقول باستحالة وجود امكانية مثل هذه، ويرى آخرون بامكانية نقل المنارة بطريقة ميكانيكية الى مكان آخر، ونقول لسنا في اوربا أو في تركيا، وقال غير واحد بأن يصار الى الابقاء على المنارة وجعلها(فلكة) كالذي صارت اليه منارة مسجد الكواز قبل اكثر من أربعين سنة، وهو برأينا الحل الامثل، لكنَّ ذلك يتطلب ازالة البيوت المحاذية للمسجد، وتعويض أصحابها. ترى لماذا لم تعمل الحكومة عليه، هي التي تملك القرار والمال؟ نعم، هناك عمارة من ثلاثة طوابق شيدت من سنوات لصق المسجد، وهناك بيت آخر ومضيف وهي أملاك شخصية يتطلب التفاوض مع اصحابها بهذا الشأن.
يجمع جمهور البصريين الى أنَّ الحكومة ذهبت الى اسهل الحلول وأقلها تكلفة مادية، وعجزت عن ايجاد صيغة مناسبة تتفادى بها اللوم والتشكيك والتقولات، فهي وبشرعيتها الكاملة تملك حقَّاً قانونياً في استملاك الأراضي والبيوت والمحال وتعويض اصحابها-على ممانعتهم- إذا كان في ذلك مصلحة عامة. نقول ذلك لأنَّ حاقداً ما سيأتي ويقول: ترى، ماذا لو اعترض الطريقَ ضريحٌ بقبّة من النحاس، أومضيف سياسيٍّ يرأس حزباً مسلحاً، أو صورة مقدسة عند أتباع الطائفة الكبيرة، أتجرؤ الحكومة على ازالته/ ها؟ عندها سيتاح القول للبعض:" لكنَّ حمزةَ لا بواكي له".
سأفتقد بمروري شبه اليومي لوحة الجمال تلك، قطعة التركوازالمجتزأة، التي اجثت من السماء، وسيقوم الفضاء بشاغره الابدي، ولن تقوى أيُّ منارة، ومن أيِّ الحجر والمعدن صبّت وجيء بها على ردم الهوة التي تركتها منارة السراجي، حاضرة الامس الذي لم يعد.