لطفية الدليمي
صار العراق منذ عقود بعيدة منطقة تتناسل فيها المشاكل والمعضلات. الغريب أنّ حقبة مابعد 2003 شهدت تعاظم وتيرة هذه المعضلات حتى لكأنّ المرء ينتابه شكٌّ في أنّ (الطبقة السياسية) صارت خبيرة في التفنّن بخلق المعضلات بدلاً من حلحلتها وتفكيكها.
تابعتُ صباح يوم الجمعة (14 تموز 2023) برنامجاً تلفازياً تحدّث فيه الكاردينال (لويس ساكو) عن الاحتكاكات الخطيرة التي مسّت الكنيسة الكلدانية ممثّلة بشخصه باعتباره رأس الكنيسة. كان الرجل يتحدّث بهدوء رغم مسحة الالم التي كشف عنها صوته وتعبيراته. إعترفَ الكاردينال بأنه بات متوتّراً بعض الشيء في الايام الاخيرة حدّ أنه ألغى طلبات للقائه من (شخصيات) كبيرة بمسمياتها في الدولة العراقية. تساءلت غير مرّة: إذا كان الكاردينال وهو متوتّرٌ على هذه الدرجة من الهدوء؛ فكيف سيكون أداؤه لو ملأته السكينة وخلوّ البال من الهموم التي تتفنّن بعض الاطراف (ومنها مسيحيون) في صناعتها؟ لكن لاعجب بالطبع؛ إذ لطالما عرفنا المسيحيين أشخاصاً وادعين مسالمين يصنعون الخبرات ويطوّرونها ولايرتضون العيش كطفيليات تلعق دماء الدولة من غير أن يرفّ لها جفن أو يهتزّ وتر في ضمائرها الميتة.
ربما لاحظتم في السنوات الاخيرة أنّ ذِكْرَ المسيحيين إنطمس كثيراً حتى لم يعُد أحد يذكرهم إلا إذا شاء الحديث عن الخمور والمشروبات الكحولية؛ وكأنّ هذا البعض يريد الترويج بأنّ المسيحيين لايعرفون مهنة سوى بيع الخمور وتناولها. يتناسى هؤلاء – ولعلّهم لايعرفون؛ فهم قليلو قراءة ومعرفة ودراية بالتاريخ العراقي – بأنّ المسيحيين لعبوا أدواراً مفصلية في التاريخ العراقي. لستُ هنا في معرض فرش سجادة تاريخية منقوش عليها بعض الاسماء اللامعة من المسيحيين الذين سجلوا مواقف رائعة في مرحلة التأسيس الاولى والبناء اللاحق للدولة العراقية الحديثة. نحنُ لسنا في جردة حساب، ولو كنّا في مهمّة هذه الجردة أظننا سنكون مدينين كثيراً للمسيحيين، وسيكون من الواجب الاعترافُ بتقصيرنا الكبير بحقهم على المستويين الحكومي والشعبي.
سنسمع خُطَباً مملّة طويلة عن التعايش والاخوة الاسلامية – المسيحية. هذا كله فلكلور شعبوي. اللسان لن يتعب كثيراً من الكلام؛ لكنّ الفعل غيرُ الكلمات. سمعنا حكايات مخجلة عمّا حدث للمسيحيين في الموصل إبان داعش، وعن جرائم سرقة عقاراتهم في بغداد وغيرها من محافظات العراق. يبدو أنّ اللسان المُسَبّح بحمد الاخوّة يخجل من الحديث وينفد وقوده عندما تصل الامور مرحلة الحقوق التي تترتب عليها إلتزامات مالية. المال يُخْرِسُ الالسن ويقتل الضمائر. تبدو هذه المقولة صحيحة إلى أبعد الحدود مع شأن المسيحيين العراقيين.
ماأريدُ قوله هو أننا يجب أن ندافع عن الوجود المسيحي في العراق بكلّ مانستطيعه من أفعال رمزية ومادية وقانونية. المسيحيون ليسوا وجوداً طارئاً في العراق. أقول بوضوح: المسيحيون علّمونا الكثير على صعيد بناء الدولة المدنية الحقيقية. الرفعة المهنية والرقي الاكاديمي واحترام القانون: هذه كلها مواصفات إختصّ بها المسيحيون كخصيصة جمعية وصارت عنواناً عريضاً لهم. الاساس المدني للدولة ساهم فيه المسيحيون بأكبر نصيب. لماذا؟ لأنهم لم يتعكّزوا على مِلَل أو نِحَلٍ أو سطوة عشائرية أو خلفية قَبَلية. يتربّى المسيحي منذ ولادته على الاعتماد على جهده الذاتي وخواصه الشخصية في صناعة مستقبله المهني والانساني، وأن ليس له من معين في الحياة سوى إرادته وجهده. من الطبيعي أن نتوقّع في بشرٍ من هذه النوعية إعلاء شأن الاخلاقيات الرفيعة من صدق وشرف في الاداء واستقامة في العمل؛ فلا وجود في أوساطهم ولاقبول مجتمعياً بمن يكذب أو يتفنّن في المراوغة أو (الزغل) أو التدليس. الوطنية عند المسيحيين ليست حكاية شعارات وحنجرة مبحوحة وعضلات تستقوي على العاجز والضعيف. القانون عندهم: عملك هو شرفك، وارتقاؤك المهني هو ميزتك الحقيقية في الحياة؛ ولأجل هذا تفوّقوا وصاروا تكنوقراطاً مميزين أعلوا شأنهم وشأن العراق معاً. كلنا يعرف في مراحل سابقة من التاريخ العراقي أننا لو بحثنا عن أطباء مميزين فالمسيحيون في مقدمتهم، ولو شئنا تعليماً راقياً فلن ننسى مدارس (الراهبات) وماعرِف عنهنّ من حزم وانضباط وبذل أقصى الجهود الممكنة؛ فلاتسويف في الدرس من أجل دروس خصوصية كما يحصل اليوم. الامثلة كثيرة وسنعجز عن تعدادها بالتأكيد. لو غاب المسيحيون عن المشهد العراقي فتوقّعوا نكوصاً خطيراً في خزّان القدرات المهنية العراقية على مستوى الطب والهندسة والعلوم واللغة والانسانيات.
لمستُ من طول عملي في ميدان التعليم العراقي والثقافة العراقية أنّ المسيحيين كانوا أفضل من غيرهم فيما يخصُّ جماليات اللغة العربية وإتقان كتابتها والتعبير بها، وربما كان مثال (الاب أنستاس ماري الكرملي) خير الامثلة. المسيحيون يقودهم الحسّ الجمالي والموسيقي الكامن في تضاعيف اللغة العربية – ذلك الحسّ الذي يُقتَلُ عند سواهم عندما يتمّ التركيز على مرويات تاريخية أو تراثيات متقادمة تلتوي عندها اللغة وتتحوّل إلى ملغّزات شبيهة بألاعيب الحلزونيات الهوائية في مدن الالعاب. نحن من قتلنا اللغة العربية بأيدينا عندما أعلينا شأن اللغة التراثية المغلقة، والفضل يعود إلى المسيحيين الذين جعلوا اللغة العربية تتنفّسُ في الهواء الطلق، وجعلونا نشعر أنّ اللغة العربية كائن حيٌّ له كلّ أسباب الحياة الحقة والجميلة والصحية. إذا ماغاب المسيحيون عن المشهد العراقي فانتظروا نكسة كبرى للغة العربية السهلة اليسيرة، وتوقّعوا المزيد من العربية التي تستجلب الاشباح المختبئة في كهوف التاريخ المزحوم بإشكالياته التي قصمت ظهر العراق وقزّمت قدراته الطبيعية المصنوعة بجهود أبنائه الخلّص لاالطارئين في غفلة غبية من التاريخ.
المسيحيون صُنّاعُ فرحٍ وحياة ورفقة وتآلف وقد عشت سنوات طويلة مع جيران وأصدقاء مسيحيين كانوا بمثابة الأهل لي ولأبنائي. كيف يمكننا أن نتناسى نواديهم ومؤسساتهم الثقافية ومساهماتهم الرياضية؟ المسيحيون ليسوا كائنات نكوصية تتباكى على أطلال الامس. هم يفرحون في يومهم ويصنعون البهجة للآخرين، وفي الوقت ذاته يتطلعون للغد بأفق مفتوح وعقول متفائلة ونفوس مسترخية. قلّما ترى مسيحياً متوفّز الاعصاب، مشدوداً، مسكوناً بالمرارة التي تكاد تخنقه وتجعل منه كائناً عدمياً يسعى لتدمير ذاته والآخرين. الدين عند المسيحيين معاملات أكثر من كونه عبادات، والأهمّ من كلّ هذا أنّ المسيحية صارت عنواناً في نسق ثقافي يمكن مساءلته وتكييفه لصالح البشر وحاجاتهم المتغيرة والمتطوّرة بدلاً من مكوثه في منطقة (الآيديولوجيا المنغلقة). إذا ماغاب المسيحيون – أو غيّبوا - عن العراق فستغيب معالم الفرح القليلة المتبقية فيه، وسيصبح عراقاً بوجه متجهّم لاعلاقة له بالعراق البهي ذي الابتسامة المشرقة الذي لطالما عرفناه وخبرناه وعايشناه في عقود سابقة.
وَضْعُ المسيحيين في العراق ليس مزحة يمكن أن نتعامل معها بخفّة مثلما تعاملنا – ونتعامل – مع قضايا الفساد وخرق القانون التي صارت عنواناً للحياة العراقية لمابعد 2003. قد لايعي كثيرون أهمية الوجود المسيحي في العراق؛ لكني سأقول بوضوح: عراقٌ من غير مسيحييه لن يعيش طويلاً لأنه سيتآكل من داخله. يجب علينا جميعاً أن ندافع بكلّ جهودنا المتاحة عن حقوق المسيحيين. تأكدْ أنك بهذا الفعل تدافع عن وجودك ومستقبل أطفالك. التغافل وغضّ الطرف عمّا يحصل للمسيحيين بقصد دفعهم لمغادرة العراق فعلٌ في غاية الخطورة، ومن يفعل هذا فهو يغامر ويقامر بمستقبله الشخصي.
لاتتصرّف بمنطق إذا كان الطوفان لن يجرفني فمالي والآخرين؟ إنتظر قليلاً ثم سترى عاقبة هذه المواقف وأنت ترى موجة الطوفان القادمة نحوك. ماذا ستفعل حينها؟ وبماذا سيفيدك ندمك؟
لاتتوهّمْ. من يتعدّى على الآخرين سيتعدّى عليك في يوم لاحق، والامر كله مسألة وقت فحسب.
ماحصل في العراق من موبقات خيرُ دليلٍ لنا لو شئنا أن نتعلّم من التاريخ القريب والبعيد، والمستقبل سيأتيك بالخبر اليقين.
جميع التعليقات 1
Anonymous
احسنتِ يا استاذتي العزيزة.