TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > مثقفون بعيون ميدوزا

مثقفون بعيون ميدوزا

نشر في: 16 يوليو, 2023: 10:42 م

مريم قاسم

لم يكن عبد الرحمن مجيد الربيعي، في روايته الأخيرة (نحيب الرافدين)، في غفلة حين أبقى بطله غسان العامري في حسرة لإيجاد (صورة شخصية) لأمه حين وجد جنسيتها من دون صورة، لحرمة لصق صور المرأة في ورقة معرضة للجميع! فللسلطة البطرياكية شرعيتها القانونية أن تفرض على النساء ما يصحَ لهن من السلوك وما يتوجب عليهن من الالتزام...

إنه (الشرف) يا سادة و (الشارب) المتصدر للفم يقتضي إضمار وجوه النساء المتعلقات به فنصحهن الدين ألا يكلمن الرجال إلا من وراء حجاب! . . لنغفر لوالد غسان العامري سلطته القروية والعشائرية (غير المثقفة! ). . وهل سنغفر له لو علمنا أن والده أدرك الفيسبوك؟

مَنْ منّا يتذكر أول صورة شخصية له على (الفيسبوك)، موقع التواصل الاجتماعي الأكثر استخداماً و انتشاراً لدى (العراقيين)، و لربما لا يتذكر (الذكور) صورتهم الأولى، ولكني واثقة من أن النساء يتذكرن جيداً، على الأقل، يتذكرن هل كانت صورة حقيقية أم لا (إن وجدن تلك الصورة طبعاً)، ليس هذا فقط بل يتذكرن كل المناسبات المهمة في الحياة: تاريخ الميلاد، الزواج، و عدد الخصومات مع (الزوج) حتى إن سامحتهُ فهي تبقى تتذكر جيداً ساعة الخصام و السبب و اليوم.. تلك هي ذاكرة النساء المقترنة بوظيفتها في الحياة..

أما فالصور التي يستخدمنها، فأغلبها صورة رمزية (تغطي وجهها) أو (تدير ظهرها)، و العجب بعضهن تنشر صورة (الزوج) كصورة شخصية، و لا أعلم منذ متى أصبح الزوج يمثل الحضور (الشخصي) للمرأة.

لا أريد الكلام عن تساؤل لاكته الألسن: (لماذا لا ينشرن النساء صورهن الشخصية؟)،غير أني أرغب أن أتحدث عن اللواتِي لم يخترن هذا الشي بإرادتهن، لربما هن لم يرغبن بهذا، أو خوفاً من التنمر، لأنهن لم يرن انفسهن بالمستوى المطلوب من الجمال حسب معايير (المجتمع)، فالموضوع هذا يحتاج إلى بحث مفصّل. و لكن السؤال المثير للفضول، هو الأسماء (المستعارة)، فالبعض من (الفتيات) يستخدمن التواصل الاجتماعي بأسماء غير أسمائهن وبعيدة عن (المرادف الواقعي)، هناك من تسمي نفسها: (زوجي جنتي)، (زوجي سر سعادتي)،(زوجي حبيبي)،(انثى نرجسية)،(زهرة التوليب) و غيرها.. و ما أكثرها من الأسماء اللواتي لا تمت للواقع الاجتماعي بصلة؛ ناهيك عن سذاجة الاختيار لهذه الاسماء التي تدل على قصور في الوعي وسطحية في الاختيار. .

إنها السلطة البطرياكية التي تفرض حضورها في الثقافة العربية بوسائل مختلفة ليبقى الرجل (القيّم) على المرأة بعد أن فضله القرآن عليها. . لا فرق في تعدد الأزمنة واختلاف الثقافات والأمكنة. . فعلى الرجل العربي أن يحافظ على (قيمه) الاجتماعية التي ورثها عن أبيه ولعل الأمر ليس منفصلاً عن النسوية وهي تناضل لمواجهة (السلطة البطرياكية /الأبوية)، وفي شأن مصطلح السلطة فانه لم يرد في اللغة العربية استعمال الدال بما يمثل التصور الثقافي والمعرفي للمفهوم الحديث.و البطرياكية أو البطريركية (نظام أبوي) أطلق على السيطرة الذكورية في مقابل امتهان المرأة أو تهميشها أو عدم الاعتراف بحقوقهما

و من المفارقات التي يذكرها بعض المستشرقين أنهم تعجّبوا من أهل بغداد، في القرن التاسع عشر الميلادي، إنهم لا يذكرون اسماء زوجاتهم حين يتحدثون أمام أخوانهم المؤمنين فيقول (أهلي) و النسق العربي البدوي القبلي المتوارث الذي يضغط على (أمه _ ابنته _ زوجته..) هو نفسه النسق السلطوي الأبوي الضاغط الذي يمنع الرجل من وضع صورة المرأة المقترنة باسمه امام الآخرين، لعلي لا أبالغ لو قلت ما وجدته في المجتمع العراقي و خاصة عند من يدّعون المدنية و الثقافة انهم لا ينشرون صوراً لزوجاتهم و بناتهم و أمهاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي رغم كثرة ما ينشرون من صور (ذكورية) وهذا ما كان يعنيه الربيعي في روايته المار ذكرها: (أن بعض العوائل لا تسمع بوضع صورة للمرأة فيها و لذا يكتفي بكتابة كلمة محجبة مكان الصورة) إنه طبق النسق الذكوري القبلي الفاعل في بنية المجتمع، فالكثير من (المثقفات) لا يستخدمن صورهن على المواقع العامة مثل الفيسبوك و حتى المواقع الأقل (عمومية) مثل (الواتس اب)،و كأنهن اعتدن من دون(وعي) على هذا النمط..

والأمر المثير للدهشة _ أيضًا _ أن قسمًا من (المثقفات)! المتمردات _ حسب وصفهن لأنفسهن _ على ثقافة القبيلة و الذكورية والرجعية. . لا يتجرأن على نشر صورهن أو أن تظهر للمثقف الآخر بصورتها (الأصلية)! وأعتقد أنهن (اعتدن) على هذا النمط من الحياة و لا يستطعن الخروج عن هذه النمطية أو التمرد عليها، و البعض منهن حتى تتجنب نشر أفكارها و لو بغير(صورة) أو تنشر و هي واضعة الأقارب و (العشيرة) في قائمة (المحظورين)، تجنباً من السلطة الذكورية أن تفرض إرادتها عليهن.

والآن أدركت لماذا المصابيح في قصيدة المومس العمياء للسياب، تحوّلت إلى ميدوزا تحجّر في الطريق كل من نظر إليها، إذ يبدو أن كثيرًا من المثقفين ورث عن السياب قوة أساطيره المستعارة ليحولها إلى قوة سلطوية تحجّر عقله ليبقى ذلك المصباح السلطة التي تحافظ على (ضوء الشرف).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. Anonymous

    جميل

  2. Anonymous

    مقال واقعي حقاً اصبتِ في كتاباتكِ يا مريم يوماً عن يوم تبدعين في طرح المواضيع المهمه ألتي اغلب مجتمعاتنا تجهلها ولا تعطيها ذات المقبولبه وفقعتي في اختيار كتاباتكِ العظيمة.

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: ذهب نور وجاء زيد

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram