ستار كاووش
تأخذني دروب المدينة وساحاتها المتشعبة، مقاهيها وحدائقها ومتاحفها وروائحها المختلفة التي تمنحها الكثير من الاسترخاء والعذوبة، هكذا هي مدينة بروكسل التي ينبثق الجمال في كل زاوية منها، بعد أن جمعت بين عظمة التاريخ وفتنة الحاضر.
أتوقف في أحد الشوارع القديمة أمام متجر لبيع أدوات ومواد الرسم، وأخرج مع إضمامة من الفرش الصغيرة التي سحرني شكلها في فترينة العرض. لأكمل بعدها طريقي نحو بيت الرسام العظيم فيرتز، والذي تحول الى متحف مهم وسط العاصمة البلجيكية. وصلتُ قبل الساعة الواحدة ظهراً بقليل، وبعد أن مررتُ من البوابة الرئيسية وإجتزتُ الحديقة، وجدت الباب الداخلي الذي يفضي الى المتحف مغلقاً، انتظرت قليلاً، فإذا بإمرأة تفتح الباب وهي تمسك شطيرة تفوح منها رائحة الجبن، وبرشاقتها وشعرها الأشقر المجعد وملابسها التي ذكرتني بالهيبيز، بَدَتْ كإنها احدى بطلات أفلام السبعينيات. حدثتني بالفرنسية فطلبتُ منها الحديث بالهولندية (بروكسل تجمع بين الثقافة الفرنسية والهولندية) فقالت بأنها تدير المتحف وحدها، والآن هو وقت الاستراحة، فشكرتها قائلاً بأني سأعود بعد ساعة. وهكذا أكملت عشرين متراً تقريباً من الشارع الذي يحملُ اسم الرسام فيرتز نفسه، لأجد نفسي وسط بنايات مركز الاتحاد الأوروبي، فمضيت أتجول بين أصحاب البدلات الرسمية والحقائب الدبلوماسية، انظر الى الواجهة الزجاجية الضخمة لهذه البناية أو أتأمل الساحة الفسيحة التي اجتمع فيها دبلوماسيون من مختلف الدول، وقد إلتمعتْ تحت الشمس مجموعة من الكراسي الملونة التي يمكن تحريكها من أماكنها لغرض الاستراحة في هذا الجانب أو في تلك الزاوية، فسحبت أحد الكراسي وجلست متأملاً سيقان البلجيكيات الجميلات اللواتي يتخاطفن مثل باقات زهور وسط جدب الدبلوماسيين وملابسهم المملة وأقدامهم المتشابهة. بعد ساعة عدتُ أدراجي الى المتحف، وهناك إنفتح عالم الرسام والنحات والكاتب البلجيكي انطوان فيرتز (١٨٠٦-١٨٦٥).
كانت دهشتي عظيمة وأنا أقف أمام اعمال بحجوم لا تصدق، حيث تجاوز ارتفاع بعض اللوحات عشرة أمتار، ورغم ان المكان واسع وكبير جداً لكنك تجد صعوبة في مشاهدة بعض الاعمال ذوات الحجوم الواسعة، حتى اضطررتُ لتصوير بعض اللوحات ثم مشاهدة الصورة والتعرف على بعض تفاصيل العمل ومفرداته، ثم العودة مجدداً لمشاهدة اللوحة. متعة ليس لها مثيل بين لوحات ومنحوتات تؤكد عبقرية هذا الفنان الذي يعتبر أحد أكثر الفنانين البلجيكيين موهبة في القرن التاسع عشر. ووسط كل ذلك لابد لي من البحث عن عمله الشهير الذي لا يخلو منه كتاب في تاريخ الفن، وأقصد لوحة (روزين الجميلة) والتي كان اسمها الأصلي (فتاتان). وهي لوحة صغيرة مقارنة بلوحاته الاخرى، لكنها تحمل رمزية كبيرة ممزوجة بأسئلة وجودية، حيث تقف فتاة جميلة بملامحها الحائرة ونظرتها المتسائلة ووجهها النضر، وهي تواجه هيكلاً عظمياً، وكإنها تشاهد مصيرها الذي هو مصير كل البشر. في هذه اللوحة إجتمعت الحياة مع الموت، والضوء مع الظلام، والسحر مع البشاعة والحاضر مع المصير المحتوم.
أكملت جولتي بين اللوحات والمنحوتات مختلفة الحجوم والموضوعات، حيث تشعب المرسم الى صالات عديدة امتلأت بالاعمال الفنية التي تؤكد مكانة هذا الفنان الذي وصل تأثيره فيما بعد الى الرمزيين والسرياليين. مع ذلك يعتبره الكثيرون ذو شخصية غريبة، فهو رغم تأثره بالفن الايطالي واعمال روبنز، قد ذكر في إحدى رسائلة (إن الأساتذة القدامى ليسوا آلهة فوق التقليد، بل رجال يجب تجاوزهم). وقد كَرَّسَ فيرتز فنه لرسم اللوحات العملاقة، حيث كان يعشق هذه الحجوم التي تبدو دون نهاية، مثل لوحته العظيمة (صراع الأغريق وخيول طروادة)، ولم يهتم كثيراً ببيع أعماله أو بالمردود المادي الذي يمكنه الحصول عليه، حيث كتبَ لأحد أصدقاءه قائلاً بهذا الصدد (أرسم اللوحات الكبيرة من أجل المجد، أما البورتريهات الصغيرة والتماثيل النصفية، فهي من أجل الحساء. وهذا هو هدفي الذي سوف لن يتغير طوال حياتي).
درس فيرتز الرسم والنحت في أكاديمية مدينة أنتفيربن، ومنذ بداياته شق طريقه كواحد من الفنانين العظماء، وحصل على الكثير من الجوائز والتقدير. وحين بدأ بالتفرغ للوحاته الكبيرة سنة ١٨٣٧ طلب من الدولة أن تبني له مرسماً كبيراً يتسع لرسم لوحات واسعة جداً، ومقابل هذا سيترك كل لوحاته ومنحوتاته مع المرسم الى الدولة. فتمت الموافقة على ذلك، وجهزوا له هذا المرسم الذي رسم فيه العجائب، وبعد وفاته حولته الدولة الى واحد من المتاحف المهمة. وتكريماً للمكانة الاستثنائية لهذا الفنان، فقد تم انجاز نصب تذكاري له من قبل النحات جاك جاكيه. هكذا تُكرم البلدان عباقرتها أثناء حياتهم وبعد مماتهم، لا يتباكون في عزاءات موتهم، ولا يقولون الكلمات العاطفية الرنانة بعد رحيلهم، بل يضعون صاحب الانجاز في مكانه اللائق. فلا يمكننا تصديق الكلام المبهرج والجميل، بل علينا تصديق الأفعال والعمل، وعلينا الإحتفاء بالأحياء الذين يعيشون بيننا، فالأموات لا يسمعون مديحنا مهما عَلَتْ أصواتن