الكسندر ليجيه

ترجمة: عدوية الهلالي

الرومانسية هي حركة أدبية ولدت في ألمانيا في نهاية القرن الثامن عشر، وانتشرت بعد ذلك إلى بقية أوروبا. ومن المعروف بأن الرومانسية التي تتميزبتمجيد اللاعقلاني، ومثالية الواقع وعبادة الجمال، معنية بشكل عالمي بعلم الجمال والفن إذ يبحث الرومانسيون عن الجمال، والكمال، والجمال الغامض الذي لا يوصف. إذن، كيف نفهم أنه يمكن أن نربط حركة أدبية معنية بمسائل الجماليات،بالسياسة؟

كما يلاحظ جاك دروز في كتابه "الرومانسية الألمانية والدولة"، يبدو للوهلة الأولى أنه من التناقض الرغبة في جعل كلمتين غير متجانستين تتعايشان في نفس المفهوم، فالسياسة المرتبطة بالمجتمع والدولة والمؤسسات - تبدو بالفعل بعيدة عن اهتمامات الرومانسيين. كيف نفهم إذن هذا التناقض الظاهري وماذا تعني الرومانسية السياسية؟

بادئ ذي بدء، تجدر الإشارة إلى أنها ليست حركة متجانسة ذات عقيدة دقيقة ونهائية. على العكس من ذلك، فهي تتميز بتجزئة المواقف، والتي يمكن أن تصل أحيانًا إلى حد التناقض. ومن بين المؤلفين الأكثر تميزًا فيها، يوجد فريدريك شليغل ونوفاليس على وجه الخصوص، ولكن أيضًا جوزيف جوريس أو أكيم فون أرنيم أو آدم مولر. والكثير من المؤلفين المختلفين لديهم أحيانًا وجهات نظر متعارضة، لكن النقاد يجتمعون تحت نفس فئة الرومانسية السياسية.

وما يشترك فيه كل هؤلاء المؤلفين هو في المقام الأول حقبة معينة حيث تأثروا بشكل دائم بتجربة الثورة الفرنسية، التي عرفوها جميعًا، إما خلال فترة مراهقتهم أو خلال بدايات حياتهم المهنية في الكتابة (بدأ بعضهم في ذلك الحين الكتابة في الصحف والمجلات). وكانت هذه التجربة المشتركة حاسمة في كثير من النواحي، حيث دفعت المؤلفين إلى الاهتمام بالقضايا التي أثارتها هذه الثورة: دور الشعب، والمسألة الاجتماعية، واختيار أفضل نوع من الدولة.. وبشكل عام، فقد تم تفسير الثورة الفرنسية على أنها علامة على الحرية الآتية ووسيلة لتحرير شعوب أوروبا من نير العنف والاستبداد. وكان من المقرر أن تكون بداية لموجة تحرير كبيرة تجتاح أوروبا. وفي مقالاته التي حملت عنوان "أثيناوم"، اعتبر فريدريش شليغل عام 1789 "أعظم وأغرب ظاهرة في تاريخ الدولة وكأنه زلزال شبه عالمي، وفيضان لا مثيل له في العالم السياسي". ومنذ ذلك الحين فصاعدًا إنتشر التمجيد والحماس لمستقبل أوروبا حيث تتحقق الحرية للجميع بشكل فعال. وبعد أن حرر الشعب الفرنسي نفسه من نير الاستبداد، أثار هذا التحرير الذاتي الأمل في عموم أوروبا.

ومع ذلك، فسرعان ما كانت خيبة الأمل مساوية للأمل حيث أعقبت الثورة فترة الإرهاب المظلمة ثم الإمبراطورية النابليونية، التي سرعان ما استعبدت شعوب أوروبا. وعندما اعتلى نابليون العرش - وانتصر على ألمانيا - تلاشت أحلام تحرير الشعوب. لذلك فإن خيبة الأمل هي التي أعقبت الحماس الذي أثار الثورة الفرنسية.

لكن الضمير والإرادة لتحرير الذات تعززتا من خلال الأحداث التي جرت عبر نهر الراين. فألمانيا، كما نعرفها اليوم، لم تكن موجودة في ذلك الوقت إذ كانت مجرد منطقة مجزأة إلى عدة دول مستقلة إلى حد ما، متحدة تحت لواء "الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة"، والتي امتدت إلى ما بعد بولندا الحالية، إلى مدينة كونيجسبيرج (عرفت فيما بعد باسم كالينينغراد). وهذا يسمح لنا بفهم حقيقة رئيسية: فمع الاحتلال النابليوني، في الإمبراطورية الجرمانية، ولدت حركة مقاومة كاملة وأدت إلى التوحيد الضروري، والذي لعب فيه الرومانسيون دورًا رئيسيًا: فالاتحاد يعني أن يجد الشعب الألماني أرضية مشتركة له، وتعتبر اللغة في مقدمة عناصر الاتحاد، ولكن أيضًا وقبل كل شيء، تطوير ماض مشترك. وهذا ما يقترحه نوفاليس بشكل خاص في "العالم المسيحي أو أوروبا"، وهو عمل يصور فيه الكاتب ماضياً مثالياً فقد كانت أوروبا في ذلك الوقت موحّدة بالدين والشعوب متحدة بحكمه. وهكذا شكلت نوعًا من المجتمع العظيم والكمال الذي يعيش فيه جميع الأفراد في وئام تام. إن خلق الماضي المثالي والكمال الطوباوي يعمل بشكل أساسي على خلق تناقض مع الشعوب الجرمانية المنقسمة خلال زمن نوفاليس. وكل هذه الشعوب، وإن كانت منفصلة سياسياً، إلا أنها متطابقة ثقافياً بحكم ماضيها المشترك. وهكذا فإن ما يطوره الرومانسيون السياسيون هو قبل كل شيء شعروأدب وطني من خلال أعمالهم الملهمة والقديمة - تمامًا كما تمتلك فرنسا تراثًاً أدبياً من أعمال رابليه أو فيلون أو كريتيان دي تروا. اما العمل الذي يعتبر مثالاً للرومانسيين فهو قصيدة "اغنية نيبلونغين"الطويلة التي يجسد أبطالها سيغفريد وكريمهيلد، صورة ألمانيا القوية، والتي تخضع بعد ذلك للقوى النابليونية وتتعرض للإذلال منها.

ومن خلال اللجوء إلى تاريخ مشترك والإشارة إلى الماضي، ساهم الرومانسيون السياسيون في ولادة الأمة الألمانية، وفي إنشاء هوية مشتركة لجميع الشعوب الجرمانية، وهكذا تتكون الرومانسية السياسية من إضفاء المثالية على الماضي للدولة والمجتمع.وبالتالي فإن ما يميز الطريقة التي يتعامل بها هؤلاء المؤلفون مع السياسة هوالمثالية.وعلى عكس ميكافيللي، الذي يتعامل مع السياسة باعتباره براغماتياً حقيقياً، وبالتالي بدءًا من التجربة الملموسة التي يمتلكها عنها، فإن الرومانسيين السياسيين يسترشدون بالأفكار أكثر من الخبرة. ولديهم وجهة نظر رومانسية للسياسة. وبالتالي، فإن هذه الأفكار ليست عقلانية، بل على العكس من ذلك فهي مشتقة مباشرة من الحركة الرومانسية، التي تتميز بجاذبية الجمال والانسجام وتفوق القوة... وهكذا فإن رؤيتهم للسياسة (فيما يتعلق بكل من الدولة أو المجتمع أو المؤسسات) تتأثربشكل مباشر بالأفكار الرومانسية.لذلك لعب الرومانسيون دورًا كبيرًا في ولادة الأمة الألمانية - كما فعل فلاسفة مثل فيشت في خطابه حول الأمة الألمانية. وتعتبر صياغة الأدب القومي، ويوتوبيا ماض بطولي مشترك وفخم، وجاذبية التاريخ، هي الوسائل التي لجأ إليها الرومانسيون في جهودهم لتعبئة الشعوب الجرمانية، لجعلهم على دراية بما هم عليه ليشتركوا من أجل محاربة الغزاة الذين جاءوا لاستعبادهم، ولتوعيتهم بهويتهم المشتركة بعيدا عن الانقسامات.

·باحث في شؤون التاريخ