لطفية الدليمي
ربما أوّلُ ماسيجول بذهنك وأنت تقرأ مفردة (الصفعة) أنها عنوانُ مسرحيةٍ عراقيةٍ على شاكلة (السرداب) أو (الدبّخانة)، أو عمل درامي على شاكلة (الجرح) أو (البندول). هذه العناوين المفردة خطيرة في دلالاتها الدرامية لأنها تستبطنُ الاشتغال في حيّز مكاني محدّد ومُسوّر بنطاقات ذهنية، أو قد تسعى لتبئير الصراع الدرامي في فعل بشري يترتّبُ عليه تداعيات شخصية أو مجتمعية مرئية أو غير مرئية لكنّ مفاعيلها ستكون مشهودة بعد زمان طال أم قصر.
تابعتُ قبل بضعة أيام سلسلة فيديوهات في غاية الامتاع عن الموسيقار المصري (هاني شنودة). أعترف أنني لم أكن أفهم الرجل ورفعة الموسيقى التي صنعها. الغريب أنّ كثرة من الاعمال الموسيقية التي نسمعها هي من بدائع تأليفاته؛ لكننا لانعرف أنّ شنودة هو من صنعها. يبدو الرجل من سيمائه الاولى بسيطاً؛ لكنها البساطة التي تخفي عالماً شديد الثراء والفهم. برع شنودة في تحريك أجواء الاغنية المصرية ونقلها من أجواء الافكار العامة (ياواحشني، هجرتك، الحبيب المجهول...) التي تتحرّك في الفضاءات المعزولة إلى فضاء الفعل العام. أنت مع شنودة ترى من تحب على حقيقته وليس كائناً سحرياً صنعه مخيالك الغارق في لجّة الحب. ثمّ الموسيقى التصويرية هي الميدان الثاني الذي تألّق فيه شنودة. كثرةٌ من الافلام المصرية صنع لها شنودة موسيقى تصويرية رائعة، والاكثر روعة عندما تصغي له وهو يحلّلُ الدافع الفلسفي الكامن وراء موسيقاه. الموسيقى التصويرية نتاج أفكار، وكلّ فكرة تقابلها حركة موسيقية مناسبة. أتمنّى أن تسمعوا تحليله لكيفية صناعته موسيقى فلم (الافوكاتو). عمل رائع بحقّ.
إستوقفني أنّ شنودة قال في واحد من البرامج الحوارية معه أنه يختزن الحزن طبقاتٍ يبثها في الاماكن التي تستوجبُ الشعور بالحزن. يبدو حديث الحزن غريباً على شخصية مثل شنودة؛ فهو جذِلٌ لاتكاد الابتسامة تفارق شفتيه. في سياق جوابه عن أسباب هذا الحزن قال شنودة أنه أقتيد موقوفا عام 1966 إلى مركز البوليس، وظلّ ثلاثة أيام رهن الاعتقال، وبعدها عُرِض على ضابط التحقيق الذي قال له: ها عم هاني. إحكِ لنا كلّ القصة. يقول شنودة: بدأت أشرح للضابط عن ال major و ال minor، وأنّ هناك فرقاً في طبيعة المناهج الموسيقية بين المؤسسات التعليمية الخاصة بالموسيقى في مصر. هنا يقول شنودة أنّ الضابط عاجله بصفعة لم يفارقه الشعور بوقع قوتها حتى اليوم التالي. فهم شنودة الحكاية لاحقاً: كان مقبوضاً عليه بتهمة الانتماء لحركة (الاخوان المسلمون) في الوقت الذي تصوّر فيه أنّ سبب القبض عليه هو معارضته لطرق التدريس في المؤسسة التعليمية التي كان طالباً فيها. المثير في الحكاية أنّ الضابط قال له من غير أن يفهم أوليات الموضوع والخلط الذي حصل: هل تعترف بأنك تتخلى عن الفهم المضلّل للقرآن؟ فأجابه شنودة: نعم أعترف!!!. هنا تسأله المقدّمة: لماذا لم تشرح للضابط هذا الخلط الذي حصل في الموضوع وأنك أصلاً مسيحي، فيجيب شنودة: وهل كان سيسمعني؟ وحتى لو سمعني فربما كان سيحوّل القضية من (أخوان مسلمين) إلى شيوعيين!!!
لم ينسَ شنودة هذه الصفعة أبداً، ولاأظنه سينساها حتى يوارى التراب. الصفعة هذه تمثّلٌ رمزي لكلّ أشكال الهيمنة والسطوة التي لانستطيع العيش إلا في ظلّها وهي التي سمّمت أجواءنا العائلية والمجتمعية في بلادنا العربية. هل تتذكرون فيديو ذلك المعلّم السادي الذي يتلذّذ بصفع التلاميذ الصغار على وجوههم بقسوة في إحدى مدارس جنوب العراق؟ كان يخادعهم لكي يحصل على أقوى صفعة. هل هذا معلمٌ؟ سيقول لك البعض أنّ التربية الحقيقية تقتضي مثل هذا الفعل. هذه مغالطة كبرى. الصفعة بكلّ قسوتها الرمزية تميتُ الروح الانسانية في داخلك وتجعلك واحداً من إثنين: إنسانٌ مازوخي يستطيب التمرّغ في وحل الاهانة وتقريع الذات، أو إنسانٌ حاقد ناقم تسيّره روح ثأرية.
أقسى معالم منتهكي الكرامة البشرية تتجسّدُ في الحكّام الذين يتناقلون سرديات الامساك بالسلطة بقبضة من حديد وعدم التفريط بها مهما كانت العواقب وماتتطلبه من هدرٍ للكرامة البشرية، وأظنُّ أنّ بلادنا العربية هي مختبرات حقيقية لتصنيع أرواح مشوّهة وكائنات معطوبة وغير قادرة على التفاعل الحر والمسؤول مع الحياة.
كان الضابط الذي صفع شنودة محظوظاً لأنه تعامل مع كائن مسالم طيب القلب لايسمح للكراهية بأن تتسلّل إلى قلبه وعقله حتى لو بقيت آثار الصفعة جاثمة في أعمق طبقات روحه؛ لكن تصوّروا الحال لو أنّ دورة الزمان دارت وصارت مقادير (الصافعين) المأزومين رهينة إرادة (المصفوعين) الحاقدين. ربما سيحمد الصافعون القدماء ربّهم وسيسبّحونه كثيراً لو إكتفى الصافعون الجدد بأن يستوفوا دَيْنَهُم بدل الصفعة القديمة الواحدة عشراتٍ – وربما مئات - من الصفعات الجديدة!!.
جميع التعليقات 2
عدي باش
مَن (العبقري) الذي عرف أن مركز الكرامة يقع (تشريحياً) تحت الخد ؟
عدي باش
بحيث تشكل الصفعة ضربة مركزة إلى كرامة المرء