علاء المفرجي
في كتاب (الشاعر في مرآته.. أندري تاركوفسكي) الصادرعن (جسور السعودية للنشر) بترجمة (منير عليمي)) حوارات مختارة اجراها تاركوفسكي مع صحفيين غربيين،
نخوض في غمار حياة هذا المخرج الذي اختار منذ بداياته نمطاً اخر وتياراً مختلفاً جعله المؤسس الاول لما يسمى بتيار الشعرية ومجدداً لمفهوم الصورة ولعلاقة البطل بعالمه.
يتطرق تاركوفسكي فيها الى نظرتهِ لعلاقة الشرق بالغرب والى الوضعية التي عاشها الفنان في الاتحاد السوفياتي كما يتطرق الى الاسس الجمالية التي بنيت عليها السينما السوفياتية إضافة الى الخصائص الجديدة التي اضحت تميز السينما السوفياتية عن غيرها، كما يخوض في مسائل تتعلق بمسألة الحرية في المعسكر الاشتراكي وعلاقة المثقف بالسلطة علاوة على نقاطٍ مختلفة لها علاقة بالشعر واثره في الحركة السينمائية في روسيا وغيرها في بلدان العالم ولعل ابرز ما يميز هذه الحوارات رؤية تاركوفسكي للمسألة النسوية ولعلاقة المرأة بالرجل سينمائياً وفنياً وهي رؤية مغايرة جعلت منه مخرجاً اشكالياً خصوصاً في الغرب.
يقول المترجم منير عليمي: "انتقينا هذه الحوارات من حوارات كثيرة نشرت في صحف غريبة كثيرة وانتقاها المخرج جون جيانفيتو ونشرها مجمعة في كتاب صدر ضمن منشورات جامعة ميسيسيبي." ويضيف: "ارتأينا اختيار الحوارات التي تقدم لمحة جديدة حول الفلسفة التي يتبعها تاركوفسكي في افلامه كما حاولنا الابتعاد عن اختيار الحوارات التي تتضمن نقاطاً تتكرر في حوارات اخرى (كطفولته مثلاً) كي نتجنب التكرار كما التجأنا الى العودة الى حوارات اجريت باللغة الفرنسية وقمنا بترجمتها عن اللغة الام واعتمدنا في ترجمتنا لعناوين الافلام، العناوين الرائجة عربياً كي يتسنى للقارئ العودة اليها."
هذه الحوارات ليست الى محاولة بسيطة للغوص في تجربة اشكالية وعميقة، تماماً كالشعر، حيث يكون الضياع هو العلامة الاولى على اندهاشنا وهذا ما حدث تماماً وانا اغوص في ثنايا هذه الحوارات.
ويعد اندري تاركوفسكي من الاشياء التي تطرح اسئلة كثيرة، ليس في عالم السينما وحده بل في عالم الشعر كذلك. فمن خلال افلامه القليلة التي تركها، استطاع ان يخلق عالماً شعرياً خاصاً، بل وطريقة فريدة تمكن من خلالها من رسم صورٍ شعرية سينمائية ظلت خالدة ومازالت الى الان علامة على مدرسةٍ سينمائية قائمة اللذات جعلت من الشعر عدسةً ثانية في عالم السينما.
فبرغم قلة أعماله السينمائية فأن السينما ومؤرخيها يضعانه في مرتبة كيروساوا وبرغمان وبونويل وبازوليني والقلة الأخرى التي لا خلاف على موهبتها العميقة وعبقريتها الفذة.
فمن معطف ميخائيل روم ذلك المنتمي الى جيل مبدعي الأشرطة السيمية خرج اندريه تاركوفسكي وكان لابد له وهو الموهوب ان يصنع أشرطة مختلفة خاصة وانه يدرك ان الإبحار في موج (السينما السوفيتية سابقاً) التي أذهلت عشاق السينما بمنجزها أمر تكتنفه الصعاب ويتطلب قدراً كبيراً من المغامرة.
تاركوفسكي الذي رحل منتصف الثمانينيات مثله مثل قرينه الايطالي بيير بازوليني اهتم بالشعر وكتبه، وكان الاثنان كانا تجسيداً للصرخة التي أطلقها اورسن ويلز حين قال ان (الشريط لا يكون جيداً الا عندما تكون الكاميرا عيناً في رأس شاعر وهو الأمر الذي منح أشرطة تاركوفسكي خاصية الشعر وتحريضيته، وكان ان منع شريطه الأول (اندريه ربولوف) داخل بلده برغم استحواذه على أكثر من جائزة في الخارج.
ان أهمية سينما تاركوفسكي تكمن في جمال تلك السينما وشاعريتها، وفي مثل هذا النوع من السينما يواجه المتفرج تماسك البناء الفني-الفكري الذي يخلقه المخرج (الشاعر والفنان) وخروج هذا الإبداع كتعبير كامل ليس فقط عن مكنونات صاحب العمل بل عن الرغبة في خلق سينما مختلفة.
ان ما يجمع شخصيات تاركوفسكي أنها شخصيات مبدعة والشعر غالباً ما يكون سمة إبداعها.. وهكذا تراها شخصيات تعيش قلقاً وتمزقاً بين ما هو يومي وما هو فلسفي، بين الروحية والمادية مكونة رفضاً داخلياً.
في فيلم (حنين) وهو أخر أعماله تتعامل الشخصية الرئيسية مع الصراع الداخلي بصمت وتسعى الى الى الغاء الحدود في الزمن، البطل هنا مدرس وباحث موسيقي يذهب في زيارة لقرية ايطالية يقتفي اثر حياة موسيقار روسي زار القرية نفسها قبل قرنين وينتاب هذا الموسيقار ألم وحنين الى بلاده، يتكرر الشيء نفسه مع الباحث.. يكفي ان نقف عند معنى عنوان الفيلم ومدلول هذه الكلمة في العربية، خاصة اذا ما عرفنا ان تاركوفسكي قد درس العربية وأتقنها.
وفي حديث له قال تاركوفسكي عن هذا الفيلم: "ان الإنسان يبقى فيه من الطفولة المقدار الذي يريده، بعد ذلك اذا ما أراد التوقف عن الطفولة يموت".