اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > صادق الصائغ في أسطورة الصمت

صادق الصائغ في أسطورة الصمت

نشر في: 23 يوليو, 2023: 10:15 م

ناجح المعموري

وجد الشاعر لحظته الغريبة الفريدة، التي لم يتعرف عليها من قبل، ولم يفز بتفاصيل اللحظة الكثيرة التي تحفزه للقبول بالحياة والتعايش مع الكل بصمت وهدوء.

على الرغم من انه ارتضى القبول بأيامه واسابيعه شارداً وسط بغداد. وغابت ظلاله في كل الاوقات، واكتفى بالغرف المهجورة وكتب قصائده المنثورة كالزهور، وهو يحلم بطريق يقوده نحو الامام ولا يلتفت الى الاصوات الضاجة، والالسن الثقيلة برائحة المستكي، وهو يجتاز شارع السعدون ملاحقاً من الشرطة الكارهة للشعر الطويل.

ارتضى صادق الصائغ خطفة هي حلم الشاعر، النبوئي، كي يستعين بها مستقويا عليها، كي ينهض، ويهرب، تاركاً السعدون وانتشر فيه من متاعب، لكنه لم يقو ان ينسى صورة صديقه الوسيم وهو مصقل بعشرات القصاصات التي فزت في ذاكرته بعد الحلم الاول.

سركون

يا ذا العينين الرائعتين

منذ آلاف السنين

في طواحين الالم

الا تستطيع

ان تنصت كعادتك

الى ما تقوله الريح

لغصن سهل الانكسار / مجلة بيت / العدد 1/2010

قرأ حضور الغائب عن بغداد، وسجل سرديات المكان الموحش، الذي وجد نفسه بعد زمن طويل، يكتب عن صعوبات البداية ومتاعب بدئية. الرضا بالمخاوف الكثيرة. والمثير، استعاد الشاعر صادق الصائغ تاريخاً طويلاً، متوتراً بمرويات ونثريات عن ممالك المدن الهاوية بمعارك الالهة التي عرفتها الجغرافية منذ الاف السنين.

في دعوته وقاحة وشراسة، لأنه يدري مرارة حياة شاذة شردته، وعرفته المقاهي والارصفة واعتاد على طعام العربات، وتناول ما دسه بجيوبه وهو يخطو مجاوراً لأشجار الورد في الجزرات الوسطية في كركوك حتى غطت صورته البيضاء بعينين واسعتين وجبين تحت شعر منحرف ضغطت الريح عليه. صادق الصائغ عاش كثيراً وطويلاً وتعرف جيداً على الذين أدهشهم مس الشعر والمرويات. وسركون فرح وسعيد وسط وجوده في مدينة ذهب اليها وهي تلتقط قصائده حتى تخفف عنه الحركة والمسير، وظل مجنوناً بمشاهد الشوارع وما تتركه المقاهي والمطاعم وهو يتخيل السكارى لحظة تسللهم لفروع ضيقة مغطاة بأكوام الاوساخ وروائح المطابخ، حالماً بامرأة تطل من فرجة باب، لكنه لم يفز بما يريد حتى اعتادت عليه الشوارع والساحات وهي تردد وراء خطواته ما قاله وفرح كثيراً.

دع يا سركون

قصائدك تشتعل

زهوراً

تتناثر في قلب السماء

تحية لا تمتلك المضيء

**********

إلقي يا امير الشعر والخسائر

بحمولاتك الى خارج الفضاء

واستمتع برؤيتها تطير

في عمقه الواسع الجميل

بعيدة قصائده اللاهية بين مناضد الاندية وشوارع مدوخة، حالمة

بنص لا يعرفه غير الشارع، ويهرع اليه ويذوب معه، وللأسف يوحي النص محترقاً برائحة الزحلاوي وليس بالبنزين.

ما يثير في تجربة صادق الصائغ معايشته لاحتراق سركون وهو يرى قصائده في اللحظة التي يذوب بها تحت دثار امرأة جاوزت اربعينها واغمض عينيه الواسعتين. واعتاد على ذلك وتعايش على المدينة ومقاهيها ولم ينس ان ياخذ عشاء للمرأة التي تطعمه ويلهو معها كثيراً، يرى كل من فيها وهو يصرخ بالمرويات التي استمع لها مرات عديدة لكنه باق ويكفر احياناً حتى اعتاد الحياة بسوادها وروائح ازقتها ولم يعد خائفاً من الشوارع وغير مشمئز من النوم على الارصفة حتى قال صديقه ما لم يسمعه من احد قبل الان:

سركون بولص

يجوب المدن وهو ميت

حاز خلوداً لم يعرفه احد من الشعراء. ربح سركون بالتقاط دعوة صادق الصائغ لنثر زهوره مع قصائده، في قبة السماء الضاجة بالآلهة الاناث التي ستظل السماء مختلطة مع عطر الزهر ورائحة قصائد النثر.

ابتلى صادق الصائغ بكل ما تساقط واندثر وظل راضيا بحنين الصداقة لشاعر الخسارات سركون ولم ينقذه من جنون الهروب وملاحقة السلطة الازوايا الخمارات بعد منتصف الليل ويختار الهدوء وهو يردد مقاطع ليله المرتعش برائحة المستكي، ويذهب نحو ذاكرة الشعر العميقة، لأن الشاعر وحده يهتدي للشعر ويختزنه في ذاكرة يقظة وحية.

وبضربة من كعب حذائك

افلت من اسار الزمن

وشاحاً حريرياً

او لحظة ساطعة مضيئة

او قطعة موسيقية

بين الوان الغيوم / سبق ذكره ص1//

الشاعر متورط بالليونة وزهوه عندما يلتقط تغريدة البلبل الواقف على حافة قفصه مرعشاً جناحيه وذيله. هي ذي لحظة حب الذكورة الباحثة على الباب المغلق في الشارع الضيق.

الشاعر هو الوحيد العارف بسعادات الحياة. ويراكم منها بين قصائده المحفوظة بدفتره الصغير وهو يسجل مقاطع من زامبو، ولكن صادق الصائغ ازاح البرقع عن عيني سركون الواسعتين، وهمس بما لم يقله احد من قبل:

وبرقة النوم والمرض

وابتسامة مائلة للشفاء

واغنية حب اخيرة

ستصل الى ذلك العالم الواسع

الذي سمح لك أخيراً

بالدخول / سبق ذكره ص1//

يواجهنا الشعر بالأسئلة الصعبة، المعقدة، العميقة، الغائبة والمراوغة عن لحظة السؤال. انه اكثر تعقيداً من الشعر، الذي يلقي بنا وسط الحيرة المظلمة. وقال شاعر غائب وحاضر: جمال الشعر يضاهيه التفكير به.

صادق مثير لأنه قاد الشعر المتعرف عليه في تجربة سركون بولص، لكنه تجاهل تماماً ما كتب من سرديات، وهو المدرك معرفة سركون ما يعنيه السرد للقوميات والطوائف التي وجدت بالسرد مرايا لكل الجماعات المعنية وهذا ما اكده المفكر هومي بابا " السرد مرايا الامة " اكد د. عبد الكريم حسن في كتابة المهم " قصيدة النثر وانتاج الدلالة / انسي الحاج انموذجاً ":

الدلالة مدخل برغم كل ما يمكن ان يثيره ذلك من انكار او احتجاج وهي مدخل اجباري برغم كل محاولات الفصل بين قصيدة النثر وما تريد ان تقول: " ما تريد ان تقول " مثار احتجاج اخر قصيدة النثر " مجانية " لا هدف لها الا ذاتها، هذا ما يقولون. قصيدة النثر " حرة " لا تقيدها ارادة قول وهذا ما يؤكدون.

لاقل اذا انني ابحث عن الدلالة من حيث استشرف الى ما بعدها او بالاحرى الى ما قبلها، الى ايقاعها، الى كيفية انتاجها وآلية انتاجها للبحث عن الكيفية التي تنتجها القصيدة من اجل ان ابني دلالة حتى وان تكون موجودة في النص، حتى وان لم تكن موجودة في رأس الشاعر، بل حتى وان كان الشاعر نفسه يريد د. / عبد الكريم حسن / قصيدة النثر وانتاج الدلالة / انس الحاج انموذجاً / الساقي / 2008/ص163//

صادق الصائغ رأى جيداً سركون بولص. وعرف بأن عينيه الواسعتين الزائفتين يريان كثيراً ويختزنان ما هو واسع وممتد، بتقديس العلاقة بين سركون والعالم، تعمقت الطاقة التي يمنحها العالم للكائن لحظة ازاح الالم والحزن، لأن الحب هو الباقي والذي سيبقى لأن الشاعر مانح التقديس مثلما عرف نوعاً من النبوءات عن حاضر الحياة وما سيأتي منها. المعروف غير مكتمل والسردية باقية لم تذهب نحو مروية شهرزاد الانثى الحافظة كل قصيدة سركون، وهي ايضا المرتلة لكل ما قاله صادق الصائغ وفي هذا الاشتباك نوع من ترسبات القداسة التي ورثها سركون من كهنة معابد عشتار المزاحة من قبل او اوفيليا التي ظلت كائنة ومتعايشة في حياة ضاجة بالتاريخ انقذها شكسبير واضفى عليها اسطرة جعلتها كائناً ميثولوجيا، تعامل معها سركون بولص بالمناوبة بين العشيقة التي ظلت كامنة في سرديات المرويات الخاصة به والتي تسلل اليها شاعر مرهف، وحساس جداً التقط هذه الشخصية واقام على مروياتها معبداً وتشارك الاثنان معاً على كهنونيتها.

تحت شمس داكنة

قطيع من ذباب مجنون

يطير بانخفاض

على سطح الماء

بحثاً عن رأس اوفيليا / سبق ذكره ص1//

جازف صادق الصائغ بالتخيلات المثيرة المعنية باوفيليا التي جعل منها ابتكاراً اسطورياً وبهذا تفوق الصائغ كثيراً في مجاورته لسركون الذي داعب اوفيليا، لكن صوت الشاعر ظل يرن مثل اجراس المعابد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram