TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > نحو صياغة نقدية متنورة لحماية وتنمية التراث

نحو صياغة نقدية متنورة لحماية وتنمية التراث

نشر في: 25 يوليو, 2023: 10:33 م

د. أحمد عبد الرزاق شكارة

لم تعد ردود الافعال الشعبية الغاضبة أو ربما الخجولة نسبيا منها لواقعة هدم جامع السرجاني ومنارته التراثية التي ترجع لما يقارب 300 عام مسألة يمكن تجاوزها بيسر خاصة وأن جهات حكومية رسمية وغير رسمية عدة يفترض أن تواجه مسؤولياتها في تحمل تداعيات ما حدث وعلى رأسها محافظة البصرة من خلال دور السيد المحافظ ،

دائرة الوقف السني ووزارة الثقافة والسياحة والاثار العراقية وكذا منظمات المجتمع المدني وكل من له تمثيل تشريعي او رسمي بل وحتى المواطن بصفته فردا او جزءا من كيان مجتمعي يهمه أمر التراث . الامر الذي يستدعي ايضا ضرورة صياغة منهجية متجددة نقدية متنورة لقضايا التراث بشقيه الذي يعتمد ثوابت الدين إضافة لإهمية الاهتمام و التكييف مع متغيرات العصر .

لن أخوض في جدل ماهية معطيات وتداعيات المسألة القانونية او القضائية أو ما يخص تبادل الاتهامات بين الاطراف المعنية في إشكال قضية جامع السرجاني ولكني معني باعتباري من ابناء العراق ومحبيه النظر بشكل معمق ليس فقط لتشخيص الحالة وإنما لمعرفة طبيعة المعطيات والبدائل التي تخفف من حالة التشنج او التوتر المجتمعي او السياسي او الايدولوجي مع إعطاء اولوية خاصة لمنظور التكييف مع متغيرات العصر بهدف حماية وتنمية التراث. لاشك أن الهدف من طرح المعطيات والتصورات لقضايا التراث هو لكي نركز على بوصلة محددة الاتجاهات معيارها وشرطها الاساس أن يحافظ العراقيون جميعا من مختلف الاطياف على تراثهم الاصيل والجميل في ظل سياق وحدة الوطن شأن شعوب العالم المتحضر بل أن العراق في إجتهادي المتواضع معني أكثر من غيره بسلامة وحفظ ما تبقى من تراث مادي ومعنوي حضاري عمره تجاوز السبعة الآف عام بل وبأستثنائية تنميته في إطار عقلاني وحداثي دون التخلي عن ثوابت دينية معترف بها من قبل الغالب الاعم من السكان . إن فكرة التعايش السلمي الاجتماعي والثقافي والسياسي - الاقتصادي يفترض أن تقع في صميم القلب والعقل والوجدان بإعتبارها منهجا مستقرا ومستداما نسبيا بهدف إعمال تغيير ايجابي صمام آمنه وتقدمه عرض قضايا التراث بصورة شاملة الابعاد مترافقة مع التصورات والتداعيات المرتبطة بكيفية معالجة مشكلات وأزمات تراثية جدلية . بعبارة اخرى لابد في النهاية أن تمهد الارضية للنخب العراقية المثقفة لمناقشة اشكالات التراث ممتزجة بمسار واضح المعالم للنقد الموضوعي الذي يبني ولا يهدم ، يصلح و ينور منتجا الافكار المطلوبة لحماية وتنمية التراث وفقا لمعطيات عصر جديد . ولنتفق بداية أن عملية البناء للتراث شاقة جدا ولكن الهدم اكثر سهولة . كما أن تداعياته متى ما غرست جذورها عبر الزمن ستنتج تعقيدات ايدولوجية وسياسية وثقافية أو”مرجعية فقهية دينية “ لايستهان بها.

من المناسب الاشارة إلى أن تعريف التراث لازال يحمل معان عامة بل وغامضة ومرنة لدرجة كبيرة بصورة تغطي مجموع المعارف الانسانية المتراكمة في سياق ما اقترحه الموقع الرسمي لليونسكو أي : “موروثا تركة الماضي التي نستغلها اليوم ونحولها إلى الاجيال الثقافية (كما أن) تراثنا الثقافي والصناعي مصدر للحياة والالهام لابديل عنها”. علما بإن للتراث جانبين اساسيين مادي (معالم آثرية ودينية) ومعنويا تتجسد في العادات والتقاليد والتصورات والافكار والايدولوجيات. هذا ووفقا لرأي بعض الباحثين الاسلاميين فإن التراث يأخذ معنى الذاكرة الشعورية واللاشعورية التي يخزنها الانسان العربي المعاصر ، ..بمعنى المعرفة الخلفية التي توجه المثقف ذهنيا وثقافيا وحضاريا ومعرفيا ودينيا وفنيا لمعرفة الحاضر ، والاستهداء به للتكيف مع الواقع والاخر “. علما بإن المفكر الاسلامي المبدع الاستاذ محمد عابد الجابري قدعرف التراث بإنه” الموروث الثقافي والفكري والديني والادبي والفني . “

من منظور الاولوية في تحليلنا أهمية طرح التساؤلات الرئيسة للتعريف بطبيعة التشخيص والعلاج في إطار من النقد المنهجي الموضوعي . ففي مؤلفه : التراث والعلمانية – المبنى والمرتكزات ، الخلفيات والمعطيات ، عرف الاستاذ عبد الكريم سروش النقد وأهميته الثقافية بما يلي : “ النقد ونعتبره من الفضائل ... يؤدي لتقوية الفكر وترشيد العلم وتصحيح الاخطاء وتفتح الابصار”. أنطلاقا من وجهة نظره المحترمة فإن المقصود بالنقد هو “ نقد المباني لا أن نتفق على المباني ونناقش في الفروع ، وعندما اقول - الحديث لسروش - بإن النقد يعتبر أحد دعائم ومرتكزات العالم الحديث ، فمثل هذا النقد يمتد إلى حيث الجذور ويعمل على تعرية الاصول وكشف القبليات ومواجهتها وتسليط الاضواء عليها”. بعبارة اخرى فأن المواقف بين الاطراف المعنية يفترض أن لاتقف عند نقاط الاتفاق والتلاقي على المشتركات وبالتالي لا تذهب عميقا في إدارة حوار نقدي معمق يعالج الاسباب او جذور المشكلة أو الازمة. فمثلا ونحن نراقب ما حدث في البصرة من هدم لجامع السرجاني ومآذنته التراثية نرى بأن الذرائعية في الحكم على الاشياء فكرة اطلقها من عقالها السيد المحافظ من كون ما حدث كان لابد منه لعدة اسباب تبدو منطقية للمراقب للاحداث ، منها مثلا الضرورة الاستثنائية قي إماطة الاذى عن المارة والسيارات التي تمر بصعوبة بالغة عبر الشارع مضافا لها أن جامع السراجي لايلبي مطالب زواره نظرا لمحدودية تقديم الخدمات المقدمة وترتيبا على ذلك فأن الصورة الفضلى في رايه تكمن في بناء مبنى جديد حديث لجامع كبير يواكب أحدث متغيرات العصر . تبرير قد يبدو للبعض مقنعا ولكنه ربما غير مقنع للعامة من السكان التي توحدت رؤها في الشعور الديني السائد شعبيا ورسميا من أن الاعيان والمباني الدينية لايجوز ابدا إعمال تغيرات فيها كونها مقدسة . ما يعزز هذه الفكرة ما ورد في المادة الثانية من الدستور العراقي للعام 2005 التي تعكس الاهتمام المتزايد بحرمة وصيانة المباني والاماكن المخصصة لممارسة الشعائر الدينية. اضافة للمادة الرابعة فقرة 2 من الدستور ايضا والتي تكفل من خلالها الدولة حرية العبادة وحماية اماكنها. هذا وفي إطار منهج مقارن و سياق مماثل نسبيا مع الفارق يمكننا أن نراجع ما تم في عهد السيد أرشد العمري رئيس الوزراء الاسبق في العهد الملكي الذي اكد هو الاخر في عام 1946 النهج ” الذرائعي “ من أن شارع الرشيد الذي يعد شريان المواصلات في بغداد استلزم أخذ مساحة جغرافية محددة من جامع ومدرسة مرجان لتعريضه . مضيفا بإن جامع مرجان بناء خرب وقديم ولم يعد يلبي احتياجات السكان.

ضمن هذه التصورات نطرح التساؤل الاساسي التالي الذي بحاجة للاجابة : من يحكم بصحة الآراء المقدمة سواءا للهدم وللبناء الجديد؟ حتى الان لم تتطرح النخب العراقية المثقفة منهجية موضوعية مقنعة للجميع حول مستقبل التراث بعيدا عن الافكار العامة أو مهاجمة الشخصيات التي تقول بمثل هذه الاراء. مع انني اؤكد وغيري ربما الكثير من أن عملية الهدم للاعيان الدينية مسألة حرجة بل وتحتاج للتفكير مليا بعواقبها كثيرا على الاقل لمنع اية مشاهد مؤلمة نفسيا لهدم مبان تراثية كالتي حدثت في متحف الموصل ومدينة الحضر وغيرها من معالم دينية وثقافية مهمة جدا من قبل الارهاب الداعشي . علما بإن قضية جامع السرجاني مسألة مختلفة كليا كونها تختص بدوافع تحديثية او أصلاحية وفقا لرأي محافظ البصرة..

أخيرا : من التساؤلات المنطقية التي تحتاج لسبر غورها في قضية جامع السرجاني مثلا : إلا يمكن ايجاد بديل آخر (طريق حولي أو نفق للسيارات)؟ أخرون تحدثوا عن استفسار مفاده هل أخذ براي لجنة الخبراء التابعة للاثار في وزارة الثقافة والسياحة والاثار في تقريرها الذي نشر في شهر فبراير2023، أم ان القرار الذي أتخذ من قبل المحافظ قد جاء عقب مشاروات فنية فقط استنفذت معها كل الخيارات ولم يعد يجد إلا الحل النهائي وهو تقطيع المنارة ومن ثم إعادة بنائها . علما بإن ما ورد من تصريحات أخرى للمحافظ ما يؤكد بإن بناء المنارة بذات الشكل التراثي مع المسجد سيتم بمواصفات افضل عمرانيا.

تساؤلات أخيرة : هل يمكن الاطلاع بشفافية اكبر على طبيعة ما جرى من نقاش بين المحافظ ومساعديه مع ديوان الوقف السني في البصرة او مع وزارة الثقافة والسياحة والاثار لمعرفة ماهية نقاط التوافق او ربما الاختلاف او التحفظ ؟ علما ومن منظور السيد المحافظ أن اللجنة الفنية في الوقف السني في البصرة قد اشارت في تقريرها بإن مكمن الخطورة يرجع لإنحراف المنارة بزاوية 20 درجة ما يجعلها آيلة للسقوط. إن صح الامر فإن ما اتخذه المحافظ من قرار بالهدم قد يبدو مبررا من منظور هندسي وإنساني . .

بقي أن نتساءل هل التغيير في الاشخاص المسؤولين (مدير الوقف السني في المنطقة الجنوبية) كاف أم أننا بحاجة للتعرف على المزيد من المعلومات بغية اصدار منهج لحكم أكثر عقلانية متنور يحمي آثارنا والاعيان الدينية ؟؟ اكيد أن مسألة مهاجمة الشخصيات دون معرفة حقيقية بعمق المسألة وابعادها أمر يفضل تجنبه أي يتطلب الامر مزيدا من المراجعة الثقافية والتقييم الجاد والموضوعي لكل معلم تراثي من جهات متخصصة . ما استطيع التأكيد عنه يرتبط ليس بجامع السرجاني بل بموقف مكمل آخر للسيد رئيس الوزراء العراقي السابق ارشد العمري من حماية التراث وتنميته كون العمري (امين عاصمة سابق ايضا) لم يتخذ موقفا معارضا بالمطلق ضد حماية ورعاية الابنية والاعيان أوالاثار العراقية او الاسلامية بل انه أقام فترة طويلة نسبيا في فلسطين بهدف إعادة أعمار المسجد الاقصى الشريف في القدس ولم يتوانى عن مهمته حتى استكمالها بالصورة المطلوبة. أما ما يخص جامع السراجي فالامر يحتاج للمزيد من المعلومات والتحقيق العلمي والفني الموسع لمعرفة الابعاد والتداعيات الجوهرية ولكن ما يهمني مثلا ان يعرف أن دولا عدة تمكنت من إيجاد بدائل ميسرة لمشكلاتها ومنها تركيا التي نجحت في نقل جامع السلطان سليمان برمته من بطمان شرق تركيا إلى موقع جديد بصورة تقنية هندسية حديثة . بمعنى لابد لنا كنخب ثقافية أن نفكر بالحلول الفنية الابداعية والثقافية الاستثنائية بغية حل المشكلات المعقدة التي قد تحمل تداعياتها فتن دينية - مذهبية وغيرها لابد من وأدها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: حدثنا نور زهير!!

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

فشل المشروع الطائفي في العراق

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

 علي حسين إذا افترضا أن لا شيء في السياسة يحدث بالمصادفة، فإنه يفترض أن نوجه تحية كبيرة للذين يقفون وراء كوميديا نور زهير الساخرة ، فبعد أن خرج علينا صاحب سرقة القرن بكامل...
علي حسين

باليت المدى: الرجل الذي جعلني سعيداً

 ستار كاووش كل إبداع يحتاج الى شيء من الجنون، وحين يمتزج هذا الجنون ببعض الخيال فستكون النتيجة مذهلة. كما فعل الفنان جاي برونيه الذي أثبتَ ان الفن الجميل ينبع من روح الانسان، والابداع...
ستار كاووش

كلاكيت: ألان ديلون منحه الطليان شهرته وأهملته هوليوود

 علاء المفرجي في منتصف السبعينيات شاهدت فيلمه (رجلان في مأزق) وهو الاسم التجاري له، في سينما النجوم في بغداد، وكان من إخراج خوسيه جيوفاني، ولا يمكن لي أن انسى المشهد الذي يوقظه فيه فجرا...
علاء المفرجي

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

ثامر الهيمص وقد اراد الله ذلك فاستهل النبي ابراهيم عبادته وهو(الدعاء) الذي يعد (مخ العبادة) فدعا الله بقوله: (رب اجعل هذا البلد امنا) فكانت الاولوية للاوطان وليس للاديان دون تعارض. (رحيم ابو رغيف /...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram