حيدر المحسن
كلّ شيء في الحياة يساوي كلّ شيء في الأدب. عاش حسين مردان شاعراً في الداخل والخارج، ولا يمكن التفريق بين الأفكار التي تأتي من شعره، ومن البراءة العريقة التي تعلو جبهته الواسعة. ومع أنه عاش في فترة تعدّ ذهبية في تاريخ العراق (1927-1972)، لكنه لم يكن في وئام مع ما يدور حوله:
“لم يبق بجانبي سوى ابتسامة أمي، لو أستطيع أن أعرف مصدر هذا الحزن الغامض الذي يلتصق على جدران قلبي مثل القار”.
كان الشاعر يهجس خطوات المجتمع العراقي الأولى في طريق التشرذم، ويرسم في رؤاه الخطّ الذي يسير عليه إلى النهاية. دُعي مرةً إلى حفل خطابيّ لكنه اعتذر، ثم وافق أخيراً لأنه لم يكن يستطيع «الصمود أمام الرجاء الذي تقدم إليّ عبر ست من العيون الجميلة». ذهب إلى الحفل، ولم يكن يهمّه ما يراه أو يسمعه لأن وجوده الحقيقيّ قائم على التوجّع لكلّ ما هو مفقود، المعنى الخفيّ الذي يريد أن يستولي عليه من الواقع ويودعه أرض القصيدة - المقالة:
«خيّل لي وأنا أبتسم لمزهريات الورد أن ابتسامتي الرقيقة المزيّفة ستسقط على الأرض... وتذكرت العباءات المصنوعة من الصوف والعيون المغطّاة بالخام والبَنان المخضوب الذي ورد ذكره في حكايات ألف ليلة وليلة”.
كان مردان يعيش وسط الحفل النسائيّ في حاضر نسبيّ لا يكمّله غير الماضي البعيد أو المستقبل القصيّ، وبخلاف ذلك لا يستطيع التواصل مع الحاضرين، ويقرّر عندها الاختفاء بواسطة الشعور بالعزلة، ويرمي عن نفسه ذاك الوجود الثقيل الذي اضطرّ إليه:
«وهناك قررت عدم السماح لوجهي الداخلي بالظهور».
أحد تعاريف الفن أنه محاولة الفنان التنفيس عن شعوره بالضيمِ، وبنوع من التّصميم المبهم يعمد إلى إخفاء معاني الأشياء التي لا تتماشى مع ذوقه، ويُظهرها بشكل جديد يحمل له السكينة والراحة؛ إخفاء المعنى ليس مهرباً على الإطلاق، إنما نوع من المواربة يمكننا عدّها مكابرة. وهو يماثل ما يتمّ في البلاغة عندما يخفي الأديب القصدَ، والقصد هو المعنى الظاهر غير الحقيقي، أي أن للبلاغة استعمال حياتيّ يقوم به الشاعر وسط قومه، فهو يعمل على مزج الحروف والأنغام والأفكار، ويركّب من معناها الظاهري معنى آخر، يتحوّل بين يديه إلى رقيَة سحرية تُبعد الظلم عن الناس.
إن الفنان لا يرى غير الحيّ في الوجود، ويُغمض عينيه بقوّة عن الميّت، لأنه ليس بضاعته. في الحفل كانت إحدى الطالبات تلقي خطبة كتبتها مدرّسة اللغة العربية عن أفكار حزبيّة لا تعني أحدا: «كم وددت في تلك اللحظة أن أصرخ بصوت أعلى من صافرة الإنذار». وإن صادف وتعاملت يداه مع طينة الموت، فهو يُشبعها خيالا ويُلبسها مئة أسطورة وأسطورة كي تفارق حالة الفناء.
ينتهي الحفل والشّاعر لا يُرى في القاعة لأنه مرّ مثل شبح جاء من ماضٍ كبير، أو عاد من مستقبل أكبر. ومثلما يحاول حسين مردان إخفاء القصد في شعره، تختفي الحياة الحاضرة من أمام عينيه:
«لقد تحركت جذور الجبال، والويل لمن يقف أمام المعصم الممتد إلى خافق الشّمس”.
كان يرى المرأة وقد أخذت دورها الحقيقي في بناء المجتمع، تحوّلت إلى كائن مختلف في الجوهر تماما، ويعلم مردان تماماً أن الأمر يحتاج تحقيقه في بلده إلى معجزة، وليس هناك غير الشّعر يحقّق له هذا الخيال:
«فلتقع كلّ المصدّات القديمة فلن ينهض الشّرق ولن ينزل المطر المقدس من السماء بدون أكفّ النساء”.
يمكن تعريف الشاعر بأنه الكائن الذي ينجح في أن يضغط حياته لكي تكون قطرة من الشِعر تسيل في عروقه. ظلّ مردان يقاسي طوال حياته من الأوجاع وينتصر بواسطة الشِعر. حتى موته كان يراه تجربة أدبيّة عليه تقديمها بصورة مشرقة: “أنا أعرف نهايتي فغداً سأموت بسكون كما تموت الأشجار القديمة في أعماق الغابات”. كان يعدّ لنفسه موتاً مفعما بالحماسة، موتا ينبع من أعماق نفس طيّبة، يحقّ لها وحدها الحديث عن أكفّ النساء، وكيف تعمل في المستقبل...
جميع التعليقات 1
Mahdi Yakoob
لمسة جميلة مشوبة بعطر الورد آنست وحشة الشاعر في قبره الذي طواه او يكاد يطويه النسيان ويطوي اشجاره التي اورقت داخل الصاعقة تحياتي حيدر