اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: حديث عن النساء

مرساة: حديث عن النساء

نشر في: 25 يوليو, 2023: 10:41 م

 حيدر المحسن

كلّ شيء في الحياة يساوي كلّ شيء في الأدب. عاش حسين مردان شاعراً في الداخل والخارج، ولا يمكن التفريق بين الأفكار التي تأتي من شعره، ومن البراءة العريقة التي تعلو جبهته الواسعة. ومع أنه عاش في فترة تعدّ ذهبية في تاريخ العراق (1927-1972)، لكنه لم يكن في وئام مع ما يدور حوله:

“لم يبق بجانبي سوى ابتسامة أمي، لو أستطيع أن أعرف مصدر هذا الحزن الغامض الذي يلتصق على جدران قلبي مثل القار”.

كان الشاعر يهجس خطوات المجتمع العراقي الأولى في طريق التشرذم، ويرسم في رؤاه الخطّ الذي يسير عليه إلى النهاية. دُعي مرةً إلى حفل خطابيّ لكنه اعتذر، ثم وافق أخيراً لأنه لم يكن يستطيع «الصمود أمام الرجاء الذي تقدم إليّ عبر ست من العيون الجميلة». ذهب إلى الحفل، ولم يكن يهمّه ما يراه أو يسمعه لأن وجوده الحقيقيّ قائم على التوجّع لكلّ ما هو مفقود، المعنى الخفيّ الذي يريد أن يستولي عليه من الواقع ويودعه أرض القصيدة - المقالة:

«خيّل لي وأنا أبتسم لمزهريات الورد أن ابتسامتي الرقيقة المزيّفة ستسقط على الأرض... وتذكرت العباءات المصنوعة من الصوف والعيون المغطّاة بالخام والبَنان المخضوب الذي ورد ذكره في حكايات ألف ليلة وليلة”.

كان مردان يعيش وسط الحفل النسائيّ في حاضر نسبيّ لا يكمّله غير الماضي البعيد أو المستقبل القصيّ، وبخلاف ذلك لا يستطيع التواصل مع الحاضرين، ويقرّر عندها الاختفاء بواسطة الشعور بالعزلة، ويرمي عن نفسه ذاك الوجود الثقيل الذي اضطرّ إليه:

«وهناك قررت عدم السماح لوجهي الداخلي بالظهور».

أحد تعاريف الفن أنه محاولة الفنان التنفيس عن شعوره بالضيمِ، وبنوع من التّصميم المبهم يعمد إلى إخفاء معاني الأشياء التي لا تتماشى مع ذوقه، ويُظهرها بشكل جديد يحمل له السكينة والراحة؛ إخفاء المعنى ليس مهرباً على الإطلاق، إنما نوع من المواربة يمكننا عدّها مكابرة. وهو يماثل ما يتمّ في البلاغة عندما يخفي الأديب القصدَ، والقصد هو المعنى الظاهر غير الحقيقي، أي أن للبلاغة استعمال حياتيّ يقوم به الشاعر وسط قومه، فهو يعمل على مزج الحروف والأنغام والأفكار، ويركّب من معناها الظاهري معنى آخر، يتحوّل بين يديه إلى رقيَة سحرية تُبعد الظلم عن الناس.

إن الفنان لا يرى غير الحيّ في الوجود، ويُغمض عينيه بقوّة عن الميّت، لأنه ليس بضاعته. في الحفل كانت إحدى الطالبات تلقي خطبة كتبتها مدرّسة اللغة العربية عن أفكار حزبيّة لا تعني أحدا: «كم وددت في تلك اللحظة أن أصرخ بصوت أعلى من صافرة الإنذار». وإن صادف وتعاملت يداه مع طينة الموت، فهو يُشبعها خيالا ويُلبسها مئة أسطورة وأسطورة كي تفارق حالة الفناء.

ينتهي الحفل والشّاعر لا يُرى في القاعة لأنه مرّ مثل شبح جاء من ماضٍ كبير، أو عاد من مستقبل أكبر. ومثلما يحاول حسين مردان إخفاء القصد في شعره، تختفي الحياة الحاضرة من أمام عينيه:

«لقد تحركت جذور الجبال، والويل لمن يقف أمام المعصم الممتد إلى خافق الشّمس”.

كان يرى المرأة وقد أخذت دورها الحقيقي في بناء المجتمع، تحوّلت إلى كائن مختلف في الجوهر تماما، ويعلم مردان تماماً أن الأمر يحتاج تحقيقه في بلده إلى معجزة، وليس هناك غير الشّعر يحقّق له هذا الخيال:

«فلتقع كلّ المصدّات القديمة فلن ينهض الشّرق ولن ينزل المطر المقدس من السماء بدون أكفّ النساء”.

يمكن تعريف الشاعر بأنه الكائن الذي ينجح في أن يضغط حياته لكي تكون قطرة من الشِعر تسيل في عروقه. ظلّ مردان يقاسي طوال حياته من الأوجاع وينتصر بواسطة الشِعر. حتى موته كان يراه تجربة أدبيّة عليه تقديمها بصورة مشرقة: “أنا أعرف نهايتي فغداً سأموت بسكون كما تموت الأشجار القديمة في أعماق الغابات”. كان يعدّ لنفسه موتاً مفعما بالحماسة، موتا ينبع من أعماق نفس طيّبة، يحقّ لها وحدها الحديث عن أكفّ النساء، وكيف تعمل في المستقبل...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. Mahdi Yakoob

    لمسة جميلة مشوبة بعطر الورد آنست وحشة الشاعر في قبره الذي طواه او يكاد يطويه النسيان ويطوي اشجاره التي اورقت داخل الصاعقة تحياتي حيدر

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram