TOP

جريدة المدى > سينما > دوموس ديّانس بوابة سحرية تنفتح على الأساطير المحلية الإيطالية

دوموس ديّانس بوابة سحرية تنفتح على الأساطير المحلية الإيطالية

نشر في: 26 يوليو, 2023: 10:50 م

عدنان حسين أحمد

على الرغم من أن "دوموس ديّانس" هو الفيلم الوثائقي الطويل الأول للمخرجة مريم راكا إلاّ أنه يأخذ بتلابيب المتلقّي طوال 69 دقيقة، فالفيلم هو أشبه بالخلطة السحرية التي تجمع بين الأسطورة والموسيقى والغناء والفن التشكيلي من دون قسرٍ أو ادِّعاء. تتمحور ثيمة هذا الفيلم الذي يُزاوج بين التقنيتين الوثائقية والروائية على استدعاء الأساطير المحلية التي توارت من ذاكرة الناس الإيطاليين لكنّ الأغاني، وأشجار الزيتون، والكروم، ونيران سان جيوفاني تُثيرها بقوة، وتؤججها في من جديد.

فحينما تلتقي المخرجة بكبار السن من الرجال والنساء لا يجدون حرجًا في القول بأنهم لا يتذكّرون الأساطير القديمة، وهي نفسها، تعرّفت عليها من خلال قراءة الكتب مع أنّ البعض من المعمّرين ماتزال ذاكرتهم قوية وبإمكانهم استعادة هذه الاساطير وسردها لمن يحب العودة إلى الذاكرة الشعبية التي صاغت هذه القصص وأضافت إليها الشيء الكثير. فلاغرابة أن تلجأ المخرجة إلى إعادة تمثيل بعض القصص والحكايات بمساعدة القرويين أنفسهم لكن حبكة الكاتبة والمخرجة مريم راكا هي التي تُعيد الأمور إلى نصابها الصحيح حينما تتوهج في ذهنها فكرة خاطفة مفادها أنّ تحرّض الفنانة الإيطالية پينا مونّي من مقاطعة سردينيا لأن ترسم جدارية تجسّد فيها أسطورة ما ولكنها لا تحتاج بالضرورة لأن تعود إلى الماضي السحيق لكي تمتحّ منه قصة ما أو حكاية معينة. ومثلما كان المغنّي أو أفراد الكورس الثلاثة يستحقون لوحدهم فيلمًا منفردًا يوثّق قدرتهم الغنائية الفذة فإن الفنانة التشكيلية، والخزّافة، ورسّامة الجداريات المعروفة پينا مونّي تستأهل أن تكون موضوعًا لفيلم متميّز يسلّط الضوء على قدراتها الفنيّة آنفة الذكر. تلتقي المخرجة بالعديد من الرجال والنساء الطاعنين في السن بعضهم لا يتردّد في القول بأنه لا يؤمن بالأساطير والخرافات التي اجترحتها الذاكرة الشعبية ولا يُمارس طقوسها المعتادة، أمّا البعض الآخر، وخاصة النساء، فقد كنّ يواظبن على إشعال النيران وعبور جمراتها المتقدة لثلاث مرات. ثمة مطرب يغني بصوت رخيم يرافقه كورس مؤلف من ثلاثة شبّان ينافسونه في جودة الترديد ويضعون المتلقين في دائرة النشوة، وثمة شخص آخر يطفئ الحرائق في قرية أولينا التابعة لمقاطعة سردينيا، ثاني أكبر جزيرة في البحر الأبيض المتوسط بعد صقلية. وهذه ثيمة جوهرية أخرى من ثيمات الفيلم المتعددة حيث تركز المخرجة على التغيير المناخي الذي أسفر عن الجفاف، والتصحّر، واندلاع الحرائق ليس في سردينيا فقط وإنما في مختلف أرجاء المعمورة. يحفل هذا الفيلم بالعديد من الحيوانات الداجنة مثل القطط، والكلاب، والخراف، والماعز، والجياد وما تشيعه من ألفة ومحبة وحميمية سواء داخل البيت القروي أو في الحظائر المجاورة له حيث نرى أحد الفلاحين منهمكًا في صناعة الجبن، وآخر يقدّم لماشيته العلف، وثالث يرعاها أو يمسِّد على أعناقها بحنوٍ كبير.

لا شيء يعوق تدفّق الفيلم وسلاسة أحداثه لكن الضربة الفنية تأتي حينما تُسنِد المخرجة دورًا محددًا للفنانة التشكيلية پينا مونّي بأن ترسم منظرًا طبيعيًا للجبل الكبير المُطل على قرية أولينا وتترك لها حرية اختيار الشخصيات التي تؤثث متن الجدارية الكبيرة التي تضم شابين من أولينا يقفان بجوار بوّابة تنفتح على عالم سحري أخّاذ إضافة إلى راعٍ يقود أغنامه بينما ينتصب في خلفية الجدارية جبل كوراسي الشاهق الذي يُطل على القرية مثل حارس أمين. وفي سفح الجبل ثمة حريق مشتعل وغيوم دخانيّة متموجة لا تنجح في تغطية الجبل العملاق.

ينتهي الفيلم نهاية مُعبِّرة جدًا حيث نصادف أربعة أشخاص يتناقشون حول أهمية هذه الجدارية وجماليتها من الناحية الفنية. أحدهما يقول لصاحبه:"كنتُ أتمنى لو أنني ولدتُ فنانًا"، فيما يستمر اثنان آخران يجلسان على مقربة منهما في النقاش. أحدهما يسأل عن فكرة هذه اللوحة ومضمونها الفني، والدلالات التي تنطوي عليها، وهل لها علاقة بالحريق الذي اندلع قبل 50 عامًا؟ فيرد صاحبه الذي يقدّم تفسيرًا معقولاً:"كلا، الحريق حدث قبل 50 سنة، لكنّ المغني وعازف الأوكورديون في هذه اللوحة شابان معاصران، وأحدهما يضع قرطًا في أذنه في إشارة واضحة إلى الموضة الرائجة في هذه الأيام. فالعازف والمغني والراعي والخراف والنار والدخان والجبل كلها تُرى من خلال البوابة. يسأله الصديق الذي لا يحلّق في الخيال كثيرًا:"أي عنوان تقترحه لهذه اللوحة؟" فيرد بعجالة:"البوابة السحرية" التي ترى من خلالها كل عناصر اللوحة آنفة الذكر. فيردّ الإنسان الواقعي:"إنها مجرد بوابة لمنطقة ريفية قديمة في أولينا يطل عليها جبل شاهق، إنها بوابة حقيقية وليست سحرية، وربما تكون سحرية لشخص ما لا يعيش في هذه المضارب". لابد من الإشارة إلى أنّ معنى "دوموس ديّانس" هو "بيت الجنيات" أو "منزل الساحرات" وهو نوع من المقابر الحجرية المنحوتة في صخور سردينيا.

جدير ذكره أنّ مريام راكا Raccah درست التشيلو وتاريخ الفن في بولونيا في إيطاليا ثم انتقلت إلى بروكسل حيث تخرجت في إنساس "مدرسة السينما" و "السرد التأملي" في ERG. ومنذ ذلك الحين وهي تعمل مخرجة أفلام وثائقية، وكاتبة للأطفال، وناشطة في مجموعة أبحاث الرسوم المتحركة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

السحب المطرية تستعد لاقتحام العراق والأنواء تحذّر

استدعاء قائد حشد الأنبار للتحقيق بالتسجيلات الصوتية المسربة

تقرير فرنسي يتحدث عن مصير الحشد الشعبي و"إصرار إيراني" مقابل رسالة ترامب

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

ترشيح كورالي فارجيت لجائزة الغولدن غلوب عن فيلمها (المادة ): -النساء معتادات على الابتسام، وفي دواخلهن قصص مختلفة !

تجربة في المشاهدة .. يحيى عياش.. المهندس

مقالات ذات صلة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر
سينما

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

علي الياسريمنذ بداياته لَفَتَ المخرج الامريكي المستقل شون بيكر الانظار لوقائع افلامه بتلك اللمسة الزمنية المُتعلقة بالراهن الحياتي. اعتماده المضارع المستمر لاستعراض شخصياته التي تعيش لحظتها الانية ومن دون استرجاعات او تنبؤات جعله يقدم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram