لطفية الدليمي
ماأكثر مانتغنّى بالحرية وفضائلها وفراديسها الموعودة. لماذا ناضلت الشعوب؟ من أجل حريتها. لماذا قبلنا الهيمنة الامريكية عام 2003؟ لأجل أن ننال حريتنا الموؤودة. نغمة الحرية لاتنقطع وسيرتها لاتكاد تسقط من الافواه. للحرية أقمنا نُصُباً (نصب الحرية مثالاً)،
ولها رسمنا أروع اللوحات وجعلناها تتفوق على أجمل نساء العالم فتنة وإغواء (لوحة " الحرية تقود الشعب " ليوجين ديلاكروا مثالاً)، ودبّجنا لها الاشعار الطويلة تمجيداً وتخليداً وإعلاءً للفضائل الكامنة في الحرية.
لكن هل الحرية هي مطلبٌ حقيقي لكلّ البشر؟ هل الحرية مع كسرة خبز يابسة أشرف من عبودية تُقدّمُ لك فيها أطايبُ الطعام؟
ربما تكون الحرية مطلباً حقيقياً عندما تكون حلماً بعيداً في مديات غير منظورة؛ لكنّ التعامل الحقيقي مع الحرية (أو بعض أشكال الحرية) قد لايكون بديلاً مسوّغاً لكلّ البشر. كيف يمكن أن يحصل هذا؟
الرحمة لروحك لورد أكتون Lord Acton (1834 - 1902)
لأنك أنت من أوجزت حقيقتين من حقائق الحياة في العبارتين التاليتين: (الحرية تقترن مع أعلى أشكال المسؤولية) و (السلطة المطلقة مفسدة مطلقة). دعونا نركّز على العبارة الاولى طالما كان مدار حديثنا عن الحرية.
التخريجة الفلسفية وراء الموضوع تكمن في الآتي: لو سألت أياً ممّن عاشوا أفضل أجواء الحرية المتاحة والممكنة في عالمنا: هل عشت الحياة التي ترغب؟ لكان جوابه في الاعمّ الاغلب: كلا. ثمّة نقص جوهري دوماً: شعورٌ بخطأ ما في مفصل زمني من الحياة ترتّب على خطأ في واحد من خياراتنا. هناك بالتأكيد عدد لانهائي من المتغيرات التي يمكن أن تكون عناصر جوهرية في تشكيل حياتنا التي نرغب في عيشها؛ لكنّ هذه العناصر لن تعمل تلقائياً. يجب تفعيلها من قبلنا. هنا تأتي الاشكالية – إشكالية مزامنة القرار المناسب في التوقيت المناسب والمتناغم مع الاجواء العامة والقدرات الشخصية. يبدو الكلام عاماً وتنظيرياً. دعونا نتخذ مثالاً تطبيقياً له.
(س) من البشر، أمريكي، ذكي ومجتهد ويتطلع للدراسة في واحدة من جامعات النخبة المعروفة. أنت في أمريكا لك كامل الحرية في دخول أية جامعة ترغب طالما كانت قدراتك الاكاديمية وافية بمتطلباتها؛ لكنّ هذه الجامعات تكاليفها عالية لايستطيعها إلا بعض أبناء النخبة الغنية؛ فماالعمل؟ تستطيع أن تقلل من سقف طموحاتك وتختار جامعة أدنى من جامعات النخبة؛ لكنّ من يشعر بمسؤولية كبرى تجاه مواهبه وإمكانياته يستطيع بالعمل الجاد والمثابر نيل منحة دراسية كاملة (دراسة + نفقات معيشة). ستوفرُ لك الجامعة أيضاً وظيفة بدوام جزئي تستطيع بها التكفل ببعض مصاريفك. هذا مثال عن أنّ الحرية لاتأتي منفردة بل تقترن بالمسؤولية إقتراناً شرطياً، وكلّما تعالى سقف الحرية تعاظمت متطلبات المسؤولية بالتبعية. هذا قانون صارم ليس بالمستطاع التفلّت من تبعاته. الامر ليس وقفاً على أمريكا. الهند – مثلاً – تمثل فيها إمتحانات القبول في معهد التقنية الهندي مطحنة حقيقية تُطحنُ فيها الاجساد والارواح، وكثيرون ممّن صاروا قيادات تقنية في العالم هم خريجو هذا المعهد. القانون هو التالي: مالم تتعامل بأعلى أشكال المسؤولية والانضباط تجاه نفسك فلن تفيدك المعايير العالية للحرية بشيء. ربما تحقق لك بعض المتعة الآنية العابرة؛ لكنها لن تفيدك فائدة مؤكدة في المديات البعيدة.
ثمة أناسٌ في هذا العالم يتغنّون بالحرية وهُمْ كاذبون. يريدون الحرية دون مسؤولياتها أو حتى قد لايريدون الحرية أساساً. لماذا؟ حتى يتخففوا من عبء مساءلة أنفسهم في السنوات اللاحقة فيما لو تعثروا في الحياة. لو قيل لك مثلاً: لماذا لم تطوّرْ قدراتك اللغوية أو تتفنّن في حقل البرمجيات الحاسوبية أو...؟ الجواب سهل ميسّر يكفيك مؤونة إثقال ضميرك. إلق عبئك على الآخرين (أو الحكومة) وتخفف من عبء إختيار طريق في الحياة من بين طرق كثيرة. الطريق الواحد الذي يصنعه لك آخرون هو الضمانة التي سترتكن إليها مستقبلاً في تبريراتك لفشلك. ستقول: وماذا عساي أفعل وقد كنتُ مجبراً على سلوك طريق واحد لم أرغب فيه؟ هل يستطيع الامريكي أو الياباني أو الكوري الجنوبي أن يتعلّل بمثل هذه المعاذير؟ أبداً. هو حرّ يختار مايشاء، وهو وحده من يتحمل تبعات خياراته.
قد تكون لعوباً يتفنّن في تسويغ فشله أمام نفسه وأمام الآخرين؛ لكن تذكّرْ: الحياة الحقيقية التي تستحقُّ أن تُعاش هي حياةٌ تقبل فيها بالحرية وماتستلزمه من مسؤوليات تتدرّج في الثقل تبعاً لمستوى الحرية، وبغير ذلك فلاأنت بمستحقّ أن تعيش حياة جديرة بالعيش، ولاالحياة التي تعيشها تستحقّ أن توصف بأنها حياة تليق بكائن آدمي يحترم الكينونة الانسانية.
لك الرحمات كلها لورد أكتون؛ فقد كنتَ عقلاً مثقفاً وضع يده على بعض شروط الحياة الآدمية اللائقة قبل مايقاربُ قرناً ونصف القرن من الزمن في الوقت الذي لايفقه هذه الشروط كثرةٌ ممّن يعيشون العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.