غادة العامليلم أكن لأفاجأ بدخول رجل شرطة إلى مكتبي، ومن دون موعد ليبلغني بأن هنالك أمراً بإلقاء القبض صدر بحقي، لأنها لم تكن المرة الأولى التي أضطر فيها للدفاع عن نفسي بسبب عملي في مجال الإعلام. المشتكي في هذه المرة لم يكن صاحب تجارة خسر صفقة بسببي أو صحفياً مغموراً شعر بالقهر من العمل معي أو ممن يجد في الشكوى عزاءا له..
المدعي هذه المرة كان أديباً عراقياً كبيراً علم ونظر ودرس اللغة العربية والأدب العربي لأكثر من ثلاثة أجيال ... فوجئت حين قرأت اسم الدكتور داود سلوم على ورقة التبليغ! يطلب حضوري إلى المحكمة ويطالبني بمبلغ تعويض مقداره خمسة وعشرون الف دولار بسبب تأخر صدور كتابه (حكايات بغدادية) الكتاب الذي اقترحه صديقنا المشترك الدكتور سعيد عبد الهادي على المدى لتقوم بطباعته. وكما هي العادة، أوكلت المحامية الاستشارية للمؤسسة لتقوم باللازم في الدفاع عني وتبرئتي على الرغم من جهلي بالتهمة الموجهه لي، لماذا أنا تحديداً من دون الآخرين؟ وبعد عدة جلسات ولقاءات بين الوسطاء والمحامين والأصدقاء طلبت عقد لقاء مشترك بين المدعي والمدعى عليه (أي بيني وبين الدكتور سلوم) لمعرفة أسباب الخلاف وحله.. لم أنتظر طويلاً. وجاء الرد بالقبول. وما هي الا فترة قصيرة حتى زارني في مكتبي رجل وقور يتوكأ على عصاه، و يسنده شاب يبدو أنه قريب إليه ..أجلسته بجانبي، بدأ الرجل للوهلة الأولى مسالماً لاصحبة بينه وبين العداوات .وبعد أن طلبت منه أن يأخذ نفساً ويرتاح من صعود السلم وليشرب قليلاً من الماء الذي سارع الشباب بتقديمه اليه إنتظرت منه كلمات لوم أو عتب أو ما يدل على الخصومة بيننا ولم أسمع منه سوى كلمة واحدة ومن دون مقدمات (هل أرى كتابي قبل أن أموت)؟؟ لم نواصل الحديث بعد هذه الكلمات الخمس وبدأت اتصالات مكثفة مع دار المدى في سوريا ومع المطبعة وأخذت وعداً منهم بإنجاز الكتاب في مدة خمسة واربعين يوماً. لأنه كان باللهجة العامية وبحاجة إلى شيء من التدقيق لتعطي الكلمات معناها وهذا هو سبب تأخير الكتاب. اخبرته بذلك، ووعدته خيراً، ولم يطالبني بأي إلتزام بل على العكس تحرك في اليوم التالي مباشرة وتنازل عن الدعوى وتحملنا عنه أجورها وأتعاب المحاماة واستمرت اتصالاتنا من وقت لآخر إلى أن انقطعت عنه مدة من الزمن بسبب الإعداد والتحضير لمعرض الكتاب الدولي الذي تقيمه المدى سنوياً في أربيل وفي زحمة العمل وحين كنت أمر على الأجنحة داخل المعرض منبهرة بجمال وهيبة المكان وما فيه، كانت فرحتي أكبر وأنا أرى الشباب وهم يضعون مجاميع الكتب، يرتبونها بأشكال هندسية في واجهة جناح المدى لإبرازها والدلالة عليها. وقعت عيني على غلاف كتاب يحمل صورة شاب يلبس الزي الشعبي العراقي وخط أعلى اسمه (حكايات بغدادية) للمؤلف الدكتور داود سلوم. اتصلت فوراً بالدكتور وأبلغته بصدور كتابه, وبطلب رئيس المؤسسة الأستاذ فخري كريم حضوره إلى أربيل للاحتفاء به والمشاركة بحفل توقيع الكتاب وبحضور عدد من الكتاب والمفكرين المدعوين إلى المعرض. لكنه اعتذر بسبب مرضه، ولم نيأس اتصلنا به مرة أخرى وقدمنا له كل التسهيلات لنحظى به بيننا في عيد الكتاب والكُتاب لكنه اعتذر مرة أخرى. أعددت له كمية من كتابه وحضر وتسلمها ولكنني لم احظَ برؤيته ولم أستطع أن أتلمس تعابير الفرحة بعد أن تحقق حلمه وشاهد كتابه قبل أن يموت ..
لـــكــــن الــحكـــايــــة لا تــمـــــوت
نشر في: 15 أغسطس, 2010: 06:15 م