حيدر المحسن
عرفتُ فرج ياسين بواسطة قصصه، والتقيته مرّتين، واحدة في بيته في مدينة تكريت، وأخرى في أحد مقاهي أربيل، ونفذ بهاء الرّجل في المرّتين إلى جَناني وقلمي، فصرتُ أتزوّد منه بالعلم وبوضاءة الخُلُق، نتهاتف دائما، ونحن صديقَان قريبَان جدّا في محلّ التواصل العامّ والخاصّ. مع معلّم عظيم إنك لن تهبط إلى القاع أبدا. أستعدّ في هذه الأيّام لنشر مجموعة قصصيّة، اطّلع فرج ياسين عليها، وأستعير هنا بعض ما كتبه لي:
"قرأتُ قصصك بشهيّة عجيبة، وفرحتُ كثيرا لأنّك تكتب وفق الرّؤية الواقعيّة دون تمحّل وتصنّع. عنايتك بالمشاهد الصّغيرة العابرة وتأثيثك للمكان ووصفك النّاعم واختيارك الموضوع من بين ركام الحالات المتاحة، والبراعة في فنّ القصّ تكون في تخيّر اللقطة النّادرة لأنّ الأشياء الواضحة أو صارخة الحضور لا تصلح إلا للمواعظ، وليس هذا من طبيعة الأدب. ستكون هذه المجموعة حدثا في السّرد العراقيّ والعربيّ".
عرفتُ فرج ياسين كذلك في سنين مجلّة "إمضاء"، من مقدمة العدد الأول أنقل لكم: "المطبوع بين يديْ القارئ يصدر بجهود هيئة التحرير، ومن أجل دوام تدفّق حروفه، فإننا نتقبّل الهبات والأفكار الجديدة..."، وكنّا نقصد مساعدة مؤسّسات الدّولة لنا، والمنظّمات التي شاعت في تلك السنين. وردنا ذات يوم ظرْف عليه اسم فرج ياسين، فيه رسالة تعضيد مع مبلغ كبير من المال في مقداره ومعناه. طوال عمر مجلّتنا القصير (2011-2013)، لم يبذل أحدٌ للمجلّة المال غيره. بعث لنا مدير مؤسّسة ثقافيّة تحمل اسما طويلا رسالة فيها جمل عتيقة وقليلة، وجاءنا ذات يوم شابّ عراقيّ قال إنه يعمل ممثّلا لمكتبة الكونغرس الأمريكيّ، وطلب الأعداد كاملة لغرض توثيقها.
في هذه السّنين لا ينشر فرج ياسين في الصّحافة الأدبيّة، مكتفيا بصفحته على منصّة الفيسبوك، وآخر أعماله نوع من السّيرة الذّاتيّة في أوراق تحمل بدل العناوين أرقاما. في الجمعة الماضية نشر هذه الذِّكرى، واستعرت من عنوانها "أيّامي 88" اسما لزاويتي. لا تستطيع أن تختزل شيئا من هذا الكلام، وأنقله لكم كاملا:
"من الصّعب الحديث عن أديب قبل اكتمال تجربته، وأقصد هنا الزّمن الافتراضي الذي يتعيّن على الشّخص أن يصنع فيه مادّته الإبداعيّة في شكلها المكتمل، فالأعوام العشرة التي انطلق فيها مشروع الأديب الذي أتحدّث عنه، شهدتْ انبثاقا هائلا في مدارات إبداعيّة عديدة لا تخرج عن حوزة السّرد وأجنحته المعروفة، فهو قاصّ وكاتب مقالة وناقد، فضلا عن كونه يكتب الشّعر؛ يقتحم هذه العوالم بصبرٍ وريثٍ وإمعانٍ. حين تعرّفت عليه أوّل مرّة صرّح لي بأنّه كان يدّخر قراءاته واستطلاعاته ويختزنها في حصّالة ذاكرته ولم يستعجل تمثيلها وإطلاقها في سوق العمل الأدبيّ منتظرا أن تحين لحظة اكتمال رؤيته، وجلاء الغبار الكثيف عن وجه السّرديّة العراقيّة والعربيّة في عالم يتغيّر في كلّ لحظة.
حين التقينا أوّل مرّة قبل أكثر من عقد بقليل رأيتُ وجها مثقّفا عالما بتاريخ القصّة وأعلامها، ويمتلك نظرة نقديّة متفرّدة تختلف عن الوجهات المألوفة التي رشّحت عددا من الأسماء وأوقفت الزمن عند منجزاتهم، وحين شرع بنقطة البداية انطلق كالسّهم؛ وكأنّ فيه جوعا إلى الاكتشاف والمعرفة فسافر وزار عددا من الكتّاب الكبار في العراق وبعض الدّول العربيّة، يلاحق الأسماء التي تحظى لديه بالأرجحيّة ويأتي بحصاد شيّ ق ومهمّ، وهي سياحة استكشافيّة غير مألوفة عندنا، أمّا نشاطه في الصّحافة الأدبيّة فلا يكاد يخلو أسبوع من مساهماته في النّقد الأدبيّ أو النّقد الثّقافيّ.
ولن أتحدّث عن نظراته الخاصّة في القصص التي يعرض لها فهو يستبطن أجواء هذه القصص ويقيم مداميك ساحرة لفكّ شفراتها على نحو يرجّح الموثوقيّة فيما يطرحه ويجعلك تنسجم مع أفكاره ورؤيته. وقد أسعدني الحظّ بالاطّلاع على آخر منجز قصصيّ له إذ خصّني بإرسال آخر مجموعة قصصيّة له قبل النّشر، وأنا مغرم بها ويأخذني العجب من هذا الطّبيب الأديب الذي افتضّ مغالق السّرد وجاء بالجديد المبهر في نظري.
إنه صديقي الدّكتور حيدر المحسن الصّوت الأدبيّ الذي يليق بزمننا الحاضر".