TOP

جريدة المدى > سينما > فلم أوبنهايمر: أنا الموت ومُدمّر العوالم .. رجلٌ لعصْرِنا

فلم أوبنهايمر: أنا الموت ومُدمّر العوالم .. رجلٌ لعصْرِنا

نشر في: 2 أغسطس, 2023: 11:50 م

ترجمة: قحطان المعموري

"أوبنهايمر"، هو الفيلم المذهل للمخرج كريستوفر نولان عن ج. روبرت أوبنهايمر، الرجل المعروف باسم "أبو القنبلة الذرية"، والذي يختصر في ثلاث ساعات مرعبة تحولًا عملاقًا في الوعي. إنها دراما عن العبقرية والغطرسة والخطأ، الفردي والجماعي على حدٍ سواء. إنها دراما ترسم ببراعة الحياة المضطربة للفيزيائي الأمريكي الذي ساعد في بحث وتطوير القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي خلال الحرب العالمية الثانية.

يستند الفيلم على كتاب السيرة الذاتية الموثوقة "بروميثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر"، للمؤلِفَينْ كاي بيرد ومارتن جيه شيروين. الفيلم كتابة وإخراج كريستوفر نولان، والذي كتبه بصيغة المتكلم على لسان أوبنهايمر، حيث أراد نقل السرد من منظور أوبنهايمرنفسه. يستعير الفيلم ما يشاء بحرّية من الكتاب لأنه يستعرض حياة هذه الشخصية، بما في ذلك دوره في منطقة مانهاتن الهندسية، والمعروفة باسم مشروع مانهاتن، وتسنّمه منصب مدير مختبر أسلحة سري تم بناؤه في منطقة شبه مقفرة قريبة من لوس ألاموس، في نيو مكسيكو، حيث كان هو والعديد من العقول العلمية الأكثر إبهارا آنذاك في حيرة من أمرهم في كيفية تسخير التفاعلات النووية للأسلحة التي قتلت عشرات الآلاف على الفور، وأنهت الحرب في المحيط الهادئ.

تحدد القنبلة الذرية وما أحدثته، إرث أوبنهايمر ويجسّد الفيلم ذلك أيضًا. يتعمّق نولان في عملية بناء القنبلة، وهي عملية رائعة ومروّعة في ذات الوقت، لكنه لا يعيد عملية شن هجمات القنابل; لا توجد صور وثائقية للقتلى أو مشاهد بانورامية للمدن الغارقة في الرماد، أوالقرارات التي كانت تُقرأ كمطلقات أخلاقية. أن رعب التفجيرات، وحجم المعاناة التي تسببت بها وسباق التسلح الذي أعقبه، كل ذلك كان كافياً للفيلم. إن فلم " أوبنهايمر " هو إنجاز كبير من الناحية الشكلية والمفاهيمية، وهو ممتع تمامًا، لكن صناعة أفلام نولان وبشكل عام، عادة ما تكون في خدمة التاريخ والأحداث المتعلقة به.

تتعقب القصة مسيرة أوبنهايمر ( جسّد شخصيته كيليان مورفي) عبر عقود، بدءاً من عشرينيات القرن الماضي و منذ أن كان شاباً يافعاً، واستمرت معه حتى إصطبغ شعره بالشيب. يتطرق الفيلم إلى المعالم الشخصية والمهنية، بما في ذلك عمله على القنبلة، والخلافات التي لازمته، والهجمات المناهضة للشيوعية التي كادت أن تدمره، فضلا عن الصداقات والعلاقات الرومانسية التي ساعدت في الحفاظ عليه ولكنها أزعجته أيضا. كان لديه علاقة غرامية مع عضوة الحزب الشيوعي جان تاتلوك (جسّدت شخصيتها فلورنس بوغ)، وزواجه لاحقاً من كيتي هاريسون (جسّدت شخصيتها إميلي بلانت)، التي ترافقه إلى لوس ألاموس، حيث ولدت طفلهما الثاني.

لقد أعطى نولان لهذه القصة المليئة بالأحداث بنيةً معقدةً وقسّمها إلى أجزاء كاشفة للحقائق. كان معظم هذه الأجزاء بالألوان الزاهية والبعض الآخر منها بالأبيض والأسود وبتباينٍ عالٍ. هذه الأجزاء مرتّبة في شرائط تلتف معاً للحصول على شكل يعيد إلى الأذهان اللولب المزدوج للحمض النووي. وفي إشارةٍ إلى غرورهِ، قام بختم الفيلم بكلمات "الانشطار" (الانقسام إلى أجزاء) و "الانصهار" (دمج العناصر)؛ انه يزيد من تعقيد الفيلم من خلال التواء التسلسل الزمني الشامل و بشكل متكرر.

أنها ليست قصة تتطور بشكل تدريجي؛ حيث يقذفك المخرج نولان فجأة في دوامة حياة أوبنهايمر وبمشاهد حية له خلال فترات مختلفة. في تتابع سريع، يظهر "أوبي" الأكبر سنا (كما يُسميه مُقربيه) ونظيره الأصغر سنا على الشاشة قبل أن تعود القصة لفترة وجيزة الى عشرينيات القرن الماضي، حيث كان طالباً مضطرباً تُعذبه رؤى نارية مروّعة. كان لديه معاناة؛ فهو يقرأ "الارض اليباب" لإليوت، ويستمع لرائعة سترافينسكي "طقوس الربيع"، ويقف أمام لوحة بيكاسو، ويحدد أعمال العصر الذي طوت فيه الفيزياء المكان والزمان في عالم الزمكان.

تستمر هذه الوتيرة السريعة والتجزئة السردية بينما يملأ نولان هذه الصورة التكعيبية، ويعبر القارات ويُعيد عبورها ويبشر بجيوش من الشخصيات، بما في ذلك العالم الفيزيائي الدنماركي نيلز بور (جسّد شخصيته كينيث برانا)، الذي لعب دورا في مشروع مانهاتن. قام نولان بتحميل الفيلم بوجوه مألوفة مثل مات ديمون، روبرت داوني جونيور، وغاري أولدمان – حيث تُشتّت بعض هذه الوجوه الانتباه، وربما يحتاج المشاهد بعض الوقت لقبول قيام المخرج (بيني سافدي) بدور إدوارد تيلر، عالم الفيزياء النظرية المعروف باسم "أبو القنبلة الهيدروجينية"، إضافة لظهور الممثل رامي مالك في دور ثانوي مع أنه شخصية فنية معروفة.

في المانيا وفي العشرينات من القرن الماضي، درس أوبنهايمر فيزياء الكم، و في العقد التالي، كان يدرس في بيركلي، ويرتد عن العباقرة الشباب الآخرين ويبني مركزا لدراسة فيزياء الكم. يجعل نولان الإثارة الفكرية للعصر واضحة - نشر أينشتاين نظريته النسبية العامة في عام 1915 – وكما كان متوقعاً، كان هناك قدراً كبيراً من النقاش العلمي واللوحات المليئة بالحسابات المحيِّرة، والتي يترجم نولان معظمها بشكل مفهوم إلى حد ما. إن واحدة من مُتَعْ الفيلم هي تجربة الإثارة الحركية للخطاب الفكري السائد آنذاك.

في جامعة كاليفورنيا وفي بيركلي تحديداً، يتغّير مسار حياة أوبنهايمر بشكل كبير. بعد فواصل الأخبارالعاجلة التي تُفيد بأن ألمانيا قد غزت بولندا. عند هذه النقطة، أصبح صديقا للفيزيائي الأمريكي أرنست لورانس ( جسّد شخصيته جوش هارتنت)، الذي اخترع مُسرّعْ الجُسيمات، (السيكلوترون)، والذي لعب أيضاً دوراً أساسياً في مشروع مانهاتن. في بيركلي أيضا، يلتقي أوبنهايمر بالرئيس العسكري للمشروع، الجنرال ليزلي غروفز ( جسّد شخصيته مات دامون)، الذي يجعله مديراً لمختبر المشروع في لوس ألاموس، على الرغم من القضايا اليسارية التي دعمها، والتي من بينها، الكفاح ضد الفاشية خلال الحرب الأهلية الإسبانية - وبعض علاقاته، بما في ذلك مع أعضاء الحزب الشيوعي الأمريكي مثل شقيقه فرانك ( جسّد شخصيته ديلان أرنولد).

كريستوفرنولان هو أحد صانعي الأفلام المعاصرين القلائل الذين يعملون على هذا النطاق الطموح، موضوعيا وتقنيا. من خلال العمل مع المصور السينمائي الرائع (هويت فان هويتما )، قام نولان بتصوير فيلم 65 ملم، وهو تنسيق استخدمه من قبل لخلق شعور بالتميّز السينمائي. يمكن أن تكون النتائج ناجحة، على الرغم من أنها في بعض الأحيان تتخبط، خاصة عندما يثبت أن نجاح هذه المَشاهد هي أكثر جوهرية وتماسكا من سرد قصصه. في فلم "أوبنهايمر"، على الرغم من ذلك، كما هو الحال في فلم (دنكيرك) عام 2017، حيث يستخدم التنسيق للتعبير عن حجم حدث ما يحدد العالم، فأنه هنا يغلق أيضا المسافة بينك كمشاهد وبين أوبنهايمر، الذي يصبح وجهه مشهداً ومرآة في ذات الوقت.

كانت براعة الفيلم واضحة في كل إطار، لكنها براعة دون أي تعظيمٍ للذات. يمكن للمواضيع الكبيرة أن تحوّل حتى صانعي الأفلام ذوي النوايا الحسنة إلى استعراضيين، الى الدرجة التي يجعلوا فيها أنفسهم أهم من التاريخ الذي يسعون لنصرته. يتجنب نولان هذا الفخ من خلال وضع أوبنهايمر و بإصرار في سياق أكبر، لا سيما مع الأجزاء التي هي بالأبيض والأسود. يتحول أحد الأجزاء إلى جلسة استماع في عام 1954 ذات دوافع سياسية، أما الثاني فيتبع السياسي الأمريكي لويس شتراوس عام 1959، وهو رئيس سابق للجنة الطاقة الذرية الأمريكية تم ترشيحه لمنصب وزاري، وبسبب كرههِ لأوبنهايمر لإعتقاده بأنه سبب تخريب علاقته بالعالِم أنشتاين حيث يطرح شتراوس تأكيده على وجود روابط لأوبنهايمر بالشيوعية واليسار عبر انخراط شقيقه فرانك بالحزب الشيوعي.

يدمج نولان هذه الأقسام التي هي الأبيض والأسود مع الأقسام الملونة، باستخدام مشاهد من جلسة الاستماع والتأكيد - دور شتراوس في جلسة الاستماع وعلاقته مع أوبنهايمر أثرت بشكل مباشر على نتيجة التأكيد – لإنشاء نوع من التوليف الجدلي. ومن أكثر الأمثلة لهذا النهج هو توضيح كيف أعتبر أونهايمر وغيره من علماء المشروع من اليهود، وبعضهم لاجئون من المانيا النازية عملهم الأمثلة الأكثر فعالية لهذا النهج يسلط الضوء على كيف رأى أوبنهايمر وغيره من علماء المشروع اليهود، وبعضهم لاجئون من ألمانيا النازية، عملهم من منظور وجودي وصارم. ومع ذلك، لا يمكن لعبقرية أوبنهايمر وأوراق اعتماده وسمعته الدولية وخدمته الحربية لحكومة الولايات المتحدة ان تنقذه من التلاعب السياسي وغرور الرجال الصغار والعداء العلني للسامية في فترة ما سمي بالذعر الأحمر الذي كان سائداً آنذاك.Formulärets överkant

تحدد هذه التسلسلات بالأبيض والأسود الثلث الأخير من الفلم. يمكن أن تبدو طويلة للغاية، وفي بعض الأحيان و في هذا الجزء من الفيلم يبدو الأمر كما لو أن نولان أصبح غارقاً جدا في التجارب التي مر بها أشهر فيزيائي في أمريكا. وبدلا من ذلك، تتلاقى هنا تعقيدات الفيلم وجميع شظاياه العديدة أخيرا حيث يضع نولان اللمسات الأخيرة على الصورة التي رسمها لرجل ساهم في عصر الاكتشاف العلمي التحويلي، والذي جسّد تقاطع العلم والسياسة، بما في ذلك دوره كبعبع شيوعي، تحول من خلال دوره في صنع أسلحة الدمار الشامل وبعدها دق ناقوس الخطر بشأن المخاطر من الحرب النووية.

كتب المخرج والناقد السينمائي الراحل فرانسوا تروفو ذات مرة أن "أفلام الحرب، حتى الرافضة منها، وافضلها،، تمجّد الحرب وتجعلها جذابة بطريقة ما، بقصدِ أو بغير قصد ". أعتقد أن هذا ما يفسر سبب رفض المخرج نولان إظهار قصف هيروشيما وناغازاكي، وهي الأحداث التي حددت العالم و قتلت في النهاية ما يقدّر بنحو 100000 إلى ما يزيد عن 200000 إنسان. ومع ذلك، ترى أوبنهايمر وهو يشاهد إختبار أول قنبلة تجريبية، وبشكل حاسم، تسمع أيضا الكلمات الشهيرة التي قال أنها خطرت في ذهنه عندما ارتفعت (سحابة الفُطِر): "الآن أصبحت الموت، و مُدمّر العوالم". وهنا يُذكّرنا نولان، بأن العالم انتقل بسرعة من أهوال الحرب إلى احتضان القنبلة. الآن، نحن أيضا، أصبحنا الموت، ومدمرو العوالم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

انتج الفلم عام 2023 وبدء عرضه في أوربا وامريكا إعتباراً من 11 تموز2023

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. خليل هباش

    استاذنا الفاضل. بارك الله فيكم...على هذا الجهد الرائع لتجعلنا نسير بين سطور هذا الموضوع الهام...وكاننا نسمع ونشاهد هذه الحقبة وكاننا شاهدناها فلما سينمائيا اقبل فائق احترامي وتقديري على هذا العمل الاكثر من رائع....

يحدث الآن

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

السحب المطرية تستعد لاقتحام العراق والأنواء تحذّر

استدعاء قائد حشد الأنبار للتحقيق بالتسجيلات الصوتية المسربة

تقرير فرنسي يتحدث عن مصير الحشد الشعبي و"إصرار إيراني" مقابل رسالة ترامب

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

ترشيح كورالي فارجيت لجائزة الغولدن غلوب عن فيلمها (المادة ): -النساء معتادات على الابتسام، وفي دواخلهن قصص مختلفة !

تجربة في المشاهدة .. يحيى عياش.. المهندس

مقالات ذات صلة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر
سينما

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

علي الياسريمنذ بداياته لَفَتَ المخرج الامريكي المستقل شون بيكر الانظار لوقائع افلامه بتلك اللمسة الزمنية المُتعلقة بالراهن الحياتي. اعتماده المضارع المستمر لاستعراض شخصياته التي تعيش لحظتها الانية ومن دون استرجاعات او تنبؤات جعله يقدم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram