TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > (المدى) تغيّر اسمي

(المدى) تغيّر اسمي

نشر في: 6 أغسطس, 2023: 12:22 ص

حيدر المحسن

صحوتُ في الفجر مع الطّير الأوّل، كالعادة، وقمت بجولتي في الحيّ الذي يقع فيه محلّ سكني، سيرا على قدمين تعرفان، مثل أقدام النّمل، كلّ نانومتر هنا، كلّ عطفةٍ، وكلّ دورة شارعٍ. انقضت نصف ساعة، وأشرقت الشّمس في سماء زرقاء فاتحة، ولم أدر أنها آخر مرّة تطلع على اسمي.

عدت إلى البيت، ومع الفطور كانت الصّحف تعرض لي أخبار يوم جديد. (المدى) نشرت عمودي الأسبوعيّ الأوّل يعلوه توقيع غريب: حيدر المحسن!

هل كان خطأً طباعيّاً؟

لا أدري...

ماذا تهمّ الكلمة التي تمثلني إذا كانت الحياة التي أعيشها واحدة؟ الانطباع الثّاني يكون قاصراً عن الإلمام بالكلّ من التّجربة، والصورة الثالثة هي الأهمّ. بعد دقائق صرتُ أحمل إدراكاً كاملا لما يجري أمامي.

اسمي صار غيره!

كم كنت أشكو من رسمي الحروفيّ الطّويل والمملّ، بل إنّه في الحقيقة لا يصلح أن يوضع على غلاف دفتر تلميذ في المدرسة، فكيف يليق بمن يحاول أن يبتدع أدبا، ويبرّر أدبُه وجودَه؟ بالإضافة إلى ذلك فإنّ أبي لم يكن يُدعى بغير "محسن"، وكان له من الشّجاعة والشّهامة وعلوّ النّفس ما يجبر الجميع على أن يخاطبوه معرّفاً...

اسمي صار غيره، فعليّ إذن أن أتخيّل أشياء أخرى. هل أستطيع؟

لا بدّ أنّ شيئاً ما لا نسمّيه مجرّد "مصادفة" يتحكّم بهذه الأشياء. صباح الخير إخوتي في هيئة تحرير (المدى)، صباح الخير أخي المخرج وأخي الطبّاع، ما قمتم به من عمل لم أكن أقدر عليه وحدي ولو أوتيتُ عضلات هرقل...

صباح الخير اسمي الجديد!

*

قليل من الحياة يكفي في أوّل اليوم لتكون إنساناً جديداً، كوب حليب تفطر به، وصحيفة تقرؤُها لتخرج إلى العالم بأنفٍ كلّه تأهّب للحياة. ثم تطوي الجريدة وتحملها مثل عصا التّبختر التي تزيّن قيافة ضبّاط الجيش- لا نسمح لهم بأن يقفوا معنا في الصّفّ إلّا عندما يكسرون بنادقهم ويقسمون معنا ويتلُون النشيد. قل لي ما هي صحيفتك، أقُلْ لك من أنت، فهي الهويّة في عالم يضطرب فيه كلّ شيء ويتعقّد، ليعود في الأخير فارغا من معناه، عدا الأشياءِ جليلةِ القدر في الوجود، والأدب والفنّ عموما، على رأس القائمة. الصّحافة نوعان، رفيعة وهابطة، والثّانية تلجأ إلى مبدإ تكدير المياه من أجل أن تبدوَ عميقة، بينما يبتعد الصّحافيّ الحقيقيّ عن المبالغة والبهرجة من أجل إعطاء كلّ ما ليس مهمّا أولويّة، على حساب الأمور الرئيسيّة والحيويّة. (المدى) هي صحيفة الأنتلجنسيا العراقيّة، ورثت طباع وأخلاق المعارضة التي كنّا ننتمي إليها في داخل البلاد، في سنين الحكم الدّكتاتوريّ السّابق، متضامنين إلى أبعد حدّ مع أولئك الذين تشرّدوا في جهات الأرض، والعجيب أن حسّ الاختلاف مع الآخر بقي ملازما لخطّ سير الصّحيفة، حتى بعد سقوط النّظام في 2003.

هل نقول عن القائمين على (المدى) إنهم يحاولون السّباحة ضدّ التّيّار؟ عن الرّوائي لورنس داريل: "من واجب كلّ شخص وطنيّ أن يكره بلده بطريقة خلّاقة".

صحيفتنا إذن هي وجه الطّبقة الوطنيّة، وعلينا التّذكير في الوقت نفسه بأنّه لا توجد ثوابت في الحياة السّياسيّة والثّقافيّة في بلد مثل العراق، ولا في أيّ مكان آخر، وما الثّبات إلا كلمة تتعلّق بالدّرجات. الحياة تجري، وحين يتدفق النّور من النّوافذ، غاسلا العيون من رمص الليل، مضيئا الغبار والحشرات الميتة، فإنه يبشّر بالجديد من الأفكار والمشاعر والرّؤى، بها ينمو العقلُ الحرّ السّليم، ويطمئنّ، ويسعى من أجل تطوير الحياة على الأرض.

"كاساندرا" هي ابنة ملك طروادة، أحبّها الإله أبولو ووعدها بنعمة التّبصّر إن هي استجابت لرغباته. لكنها سخرت منه بعد أن حصلت على هذه المَلَكة، فعاقبها الإله بأن جعل النّاس يكذّبون كلّ ما تقوله. الصّحافة الهابطة تشبه "كاساندرا"، تقول الأخبار ولا يصدّقها أحد، وتنزّهت (المدى) من هذه اللوثة، رغم العواصف التي تحيط ببيتها من كلّ صوب.

*

يضمّ أرشيفي في (المدى) مقالا عنوانه "الشّعر الخشب"، وكنتُ أجمع أفكاره في ذلك اليوم في حديقة متنزّه الزّوراء في بغداد. الوقت هو أوّل النّهار، ولا أحد معي غير الشّجر والعشب والشّمس وجسد الهواء، وقد اكتسب جلال نسمة صيفيّة باردة، مفعمة برائحة أزهار جديدة. وأنا أتملّى أشجار الحديقة الباسقة، من السّماء ومن كلّ ما حولي، نزل على صدري نغما صافيًا من أحد أسلافي الذين كانوا الأقرب منّي. هل هو الجاحظ أم أبو حيّان، أم لا هذا ولا ذاك؟ لقد حلّت نغماتُ نفسٍ في نفسي وتغيّرت سريرتي تماما في تلك السّاعة. كان الصّوفيّون يؤمنون بإمكانيّة حلول الأشخاص في بعضهم البعض "كحلول ماء الورد في الورد" على حدّ تعبير الإمام الجرجاني. صار هذا الأسلوب مثل اللّحن أسيرُ وفْق وقْعه في جَناني، وهذا سرّ أعتزّ به كثيرا وأذيعه أوّل مرّة. قبل هذا اليوم كان أسلوبي في الكتابة لا موسيقى تجمعه وتصطفيه وتُخرجه. الوقع الذي جاءني في ذلك الصباح البهيّ هو الذّي ندعوه أسلوب الكاتب، وهو السكّة التي لن أحيد عنها في المسير. نُشر مقال "الشعر الخشب" في (22/ 6/ 2021)، ومنه أنقل لكم مفتَتَحه كي تتبيّنوا أنّ للكلام المكتوب على القرطاس ألحان يمكن لها أن تنتظم فتصير أنشودة، أو تضيع وتصير سُدًى:

"النّقد الأدبي جزءٌ من الأدب، إذا انفصل عنه جفّ وذوى، وصار عصْفاً تذروه الرّياح. ولا يوجد نقد قديم وحديث، إنما هناك ناقد لامع وباهت، وآخر لا تستطيع أن تقول عنه أيّ شيء. ومن النّقد ما يأتي عرَضا، وقائله يقصد به الذّمّ فإذا هو يمدح". لم أكن أكتب مثل هذه الأنغام قبل ذلك اليوم، بينما أستطيعُ الآن تسميرها على الورق، مثلما يفعل جامعو الفراشات بالفراشات، ناشرين أجنحتها على سماء كاملة الصّفاء. من كتاب "حلْية المحاضرة في صناعة الشّعر" لمحمد بن الحسن بن المظفّر الحاتمي (المتوفّى سنة 388 هجرية): "المنثور مطلق من عقال القوافي، فإذا صفا جوهره وطاب عنصره ولطفت استعارته ورشقت عبارته كاد يساوي المنظوم". لاحظوا استعمال الحاتمي لوصف القافية في الشّعر بالعقال، والنّثر إذن يشبه الشّعر الذي تحرّر في العصر الحديث في بعض الوجوه، والمفردة مثل الطّير والفراشة، تملكها الرّوح وتحلّق بها قاصدة سماءً أعلى وأرضونَ أبعدَ...

*

الحقَّ: ليس من ندامة في الخطوة التي تفصلنا عن الماضي. قبل أن أصير من أهل (المدى)، كنتُ أنشر نصوصا ومقالات في صحف (الزمان) و(القدس العربي) و(الشّرق الأوسط)، موقّعا باسمي القديم: "حيدر عبد المحسن". ثم تغيّر رسمي في (المدى)، ولا تزال بقيّة الصّحف تخطئ أحيانا وتعود بي إلى الماضي. وحدها صحيفتنا ظلّت جديدة معي على الدوام.

كلّ هذا جيّد، لكنّه ليس الأمر الأكثر أهميّةً...

في شارع المتنبّي مبنى بغداديّ قديم، تمّ تجديده بطريقة يحتفظ بها بنسغه التّراثيّ. سُمّيَ (بيت المدى)، ويضمّ مكتبة عظيمة ودارا للنشر والتوزيع، مع منصّة وبهو للجالسين تُقام فيه النّدوات المخصّصة للفنّ والسّياسة وعلوم الاقتصاد والاجتماع والتّاريخ... وكلّ هذا بنكهة عراقيّة ينطق بها الدار والأثاث والشّارع ونهر دجلة القريب. البيت هو المثوى، وليس المُضطَرَبُ، وهو لم يكن يوماً مكاناً تصدأُ فيه الرّصاصاتُ في قلب الزائر. وأنت تجلس في بيت المدى، تشعر بالألفة والرّاحة والطمأنينة. أنت في بيتك، أرضه وجدرانه والأبواب والنّوافذ، والسّقف الذي يحميه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: حدثنا نور زهير!!

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

فشل المشروع الطائفي في العراق

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

 علي حسين إذا افترضا أن لا شيء في السياسة يحدث بالمصادفة، فإنه يفترض أن نوجه تحية كبيرة للذين يقفون وراء كوميديا نور زهير الساخرة ، فبعد أن خرج علينا صاحب سرقة القرن بكامل...
علي حسين

باليت المدى: الرجل الذي جعلني سعيداً

 ستار كاووش كل إبداع يحتاج الى شيء من الجنون، وحين يمتزج هذا الجنون ببعض الخيال فستكون النتيجة مذهلة. كما فعل الفنان جاي برونيه الذي أثبتَ ان الفن الجميل ينبع من روح الانسان، والابداع...
ستار كاووش

كلاكيت: ألان ديلون منحه الطليان شهرته وأهملته هوليوود

 علاء المفرجي في منتصف السبعينيات شاهدت فيلمه (رجلان في مأزق) وهو الاسم التجاري له، في سينما النجوم في بغداد، وكان من إخراج خوسيه جيوفاني، ولا يمكن لي أن انسى المشهد الذي يوقظه فيه فجرا...
علاء المفرجي

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

ثامر الهيمص وقد اراد الله ذلك فاستهل النبي ابراهيم عبادته وهو(الدعاء) الذي يعد (مخ العبادة) فدعا الله بقوله: (رب اجعل هذا البلد امنا) فكانت الاولوية للاوطان وليس للاديان دون تعارض. (رحيم ابو رغيف /...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram