TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > تجربة عقدٍ ونصف مع المدى

تجربة عقدٍ ونصف مع المدى

نشر في: 6 أغسطس, 2023: 12:41 ص

لطفية الدليمي

منذ نشأة مفهوم الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر والصحافة هي إحدى الاعمدة المطلوبة لرسوخ مدنية الدولة وحداثتها وانغمارها في " روح العصر ".

ترسّخ هذا المفهوم مع السنوات حتى باتت الصحافة سلطة رابعة تمثّلُ واحة يستظلُّ فيها الباحثون عن ثالوث الحقوق العالمية: الحرية والعدالة والمساواة في المواطنية، وفي الوقت ذاته صارت الصحافة بمثابة الحارس على المواريث الانسانية الثقافية الرفيعة، والسيف المشرع بوجه كلّ من يحاول التجاوز على القانون أو استغلاله لمصالحه الشخصية، والامثلة في هذا الشأن أكثر من أن تعدّ. لأجل هذا صارت بعض العناوين الصحفية (الغارديان، النيويورك تايمز، الواشنطن بوست، الاندبندنت،،، إلخ) شواخص حضارية تضافُ إلى خزانة القوة الرمزية لكلّ جماعة حضارية موصوفة بوصف (الامّة).

تأسّست في العراق الملكي بذرة صحافة وليدة تتماشى مع بواكير الليبرالية الخجولة التي كانت تحبو في ذلك العهد برغم كلّ المعرقلات الخطيرة، وليس بمستطاع الذاكرة التغافلُ عن أسماء صحفية لامعة كانت لها أدوار تأسيسية مشهودة في الصحافة العراقية فضلاً عن أدوارها السياسية (روفائيل بطّي مثالاً)؛ حيث تعشّق الصحفي مع البرلماني في سابقة لم يألفها الفضاء السياسي العراقي. تراجعت الصحافة العراقية (من حيث الجرعة الليبرالية فيها على أقلّ تقدير) في العهود الجمهورية اللاحقة، وصارت ملحقة بالسياسات الحزبية الحاكمة مع إستثناءات هامشية أقرب إلى أكسسوارات تجميلية للنظام السياسي الحاكم.

عقب القيامة العراقية 2003 إنفلتت الامور، ومن مظاهر هذا التفلّت أن راحت كلّ جماعة صغيرة من بضعة أفراد عشوائيين تسعى لتأسيس حزب وإصدار صحيفة بإسمه. بات المشهد العراقي أقرب إلى مزاد تستطيع فيه فعل كلّ شيء وأي شيء، ثمّ راحت السكرة وجاءت الفكرة عندما أيقن البعض الطارئ على المهنة الصحفية أنّ حلمه بألوف مؤلفة من الدولارات التي سيغدقها الامريكان (المحتلون) عليه ليس سوى أحلام يقظة، وحينها انسحب الطارئون العابرون، وثبت المتمرسون بالصحافة وهم الأجدر والأحقّ بالبقاء والاستمرارية وإشاعة التنوير والقيم المدنية المتحضرة التي غابت سنوات طويلة في العراق تحت سطوة العسكر والآيديولوجيا الحزبية المغلقة. ولاأشك في اتفاق الجميع على أنّ (المدى) التي تأسست عقب أشهر قليلة من زلزال 9 نيسان 2003 هي الصحيفة الطليعية المستقلة التي واظبت على البقاء بجهد خلّاق ونجاح مشهود للجميع.

شرعتُ بقراءة صحيفة " المدى " العراقية منذ أوائل صدورها عندما لم أكن قد غادرتُ العراق بعدُ. بدأت الصحيفة بداية واعدة ومثّلت – ولم تزل برغم كلّ المعوّقات اللوجستية – نافذة متطوّرة لصحافة عراقية تقاربُ التوجهات الحداثية في الصحافة التي غابت عن العراق منذ عقود طويلة على الرغم من أنّ الصحافة العراقية كانت لها بدايات مشهودة ومرموقة. تفردت المدى بـ (لوغو) صار علامة مميزة للصحيفة ومطبوعات دار المدى، وأصبح قيمة فنية وجمالية تعرف بها الصحيفة بين الصحف البغدادية الاخرى. وبدء أدهشتني المساهمات الفكرية المتميزة لأسماء بارزة من كتّاب المدى الذين أرسوا قواعد توجهاتها الحرة ونزعتها الناقدة لكل خلل في أداء السلطات بعد التغيير مما عرضها للعديد من الملاحقات القضائية.

كان هذا الكلام في (العام)؛ أما في (الخاص) فلي مع المدى تجربة فريدة ومميزة لاتماثلها أية تجربة أخرى.

شرعتُ في الكتابة المنتظمة في (المدى) منذ عقد ونصف بالتقريب في عام 2009. الكتابة الصحفية ليست جديدة عليّ؛ لكنّ الجديد هو الكتابة الاسبوعية المنتظمة، وتلك تجربة لها استحقاقاتها ومترتباتها وآثارها في تنظيم العقل والتوجهات واستغلال الوقت بطريقة (ستراتيجية) منتجة. حصلت إنعطافة كبيرة في نشاطي الثقافي عندما أضيف لمقالي الاسبوعي في المدى مادة أخرى مترجمة أو مؤلفة بدأتها بترجمة حوارات مع كبار أدباء عالمنا ثم تنوعت ترجماتي الفكرية والفلسفية والعلمية بعدها.

عندما تقرأ عن الثقافة العالمية في صحف العالم من غير أن تكون كاتباً لعمود صحفي أو مترجماً لمادة أسبوعية فستقرأ باسترخاء وكأن الوقت لديك ممتدّ من غير حدود منظورة. إنّه لأمرٌ محمودٌ دوماً أن يحافظ المرء على استرخائه؛ لكنّ الاسترخاء المديد قد يقود إلى التكاسل والقراءة الروتينية. القراءة عند الكاتب الذي يكتب مادة أسبوعية (أو أكثر) هي غيرها عند الكُتّاب الآخرين. عندما يقرأ هذا الكاتب أية مادة فسيقرأ بعَيْنَيْ صقر وإحساس باحث، وسيعمل عقله على تطويع تلك المادة وتوظيفها (تمثلاً أو ترجمة) ليفيد بها أكبر عدد ممكن من القرّاء. وكلّما قرأ هذا الكاتب مادة استثنائية سيحدّثه عقله وتسائله روحه: كيف لي أن أكون جسراً ثقافياً يصلُ الحداثة العالمية المتفجرة بواقع حالنا الذي لايسرُّ أحداً؟ هذا التساؤل أقرب لأن يكون مطحنة يطحن فيها الكاتب نفسه وليس أمامه رفاهية المغادرة إلا إذا إختار الهزيمة أو الانكفاء أو الخذلان أمام المشقات. الكاتب المطبوع بالأصالة لن يختار هذا ولن يهزم أبداً.

أفادتني تجربتي في (المدى) على إعتماد سياقات العمل المنظّم واستغلال الوقت إلى حدود بعيدة، وقد إنعكست هذه السياقات المنظّمة على إثراء أعمالي المنشورة وتنوّع موضوعاتها وانفتاحها على آفاق جديدة كانت بالنسبة لي فتوحات معرفية مستحدثة أكسبت حياتي جمالاً وحسّاً نبيلاً بالامتلاء والثراء والمضي في التنقيب والبحث عن آفاق أكثر جدّة من سابقاتها ويكون للعلم والتقنية والفلسفة فيها نصيب مستحق وكأنني أسعى للتعويض عمّا فاتني (وفات العراقيين بعامة) من هذه الحقول المعرفية التي صارت شواخص أساسية في تشكيل القيمة الستراتيجية للدولة الحديثة.

(المدى) أغنت حياتي مثلما أغنت حياة قرائها المخلصين جميعاً، وأحسبُ أنّ التنويه بفضائل المدى (مؤسسة صحفية ودار نشر) ورياديتها في الساحة الثقافية العراقية والعربية هو أبعد من تأشير حقيقة ساطعة. هو شعور يستحثّه شعور العرفان بجميل الصنيع، وهذا الفعل بقدر ماهو واجبٌ علينا فإنّه يشدُّ على أيدي أسرة (المدى) ويغريهم بالمواصلة رغم قلّة زاد الطريق الوعر المثقل بمشاهد الرثاثة الخانقة التي تسود وجه الحياة العراقية الراهنة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: حدثنا نور زهير!!

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

فشل المشروع الطائفي في العراق

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

 علي حسين إذا افترضا أن لا شيء في السياسة يحدث بالمصادفة، فإنه يفترض أن نوجه تحية كبيرة للذين يقفون وراء كوميديا نور زهير الساخرة ، فبعد أن خرج علينا صاحب سرقة القرن بكامل...
علي حسين

باليت المدى: الرجل الذي جعلني سعيداً

 ستار كاووش كل إبداع يحتاج الى شيء من الجنون، وحين يمتزج هذا الجنون ببعض الخيال فستكون النتيجة مذهلة. كما فعل الفنان جاي برونيه الذي أثبتَ ان الفن الجميل ينبع من روح الانسان، والابداع...
ستار كاووش

كلاكيت: ألان ديلون منحه الطليان شهرته وأهملته هوليوود

 علاء المفرجي في منتصف السبعينيات شاهدت فيلمه (رجلان في مأزق) وهو الاسم التجاري له، في سينما النجوم في بغداد، وكان من إخراج خوسيه جيوفاني، ولا يمكن لي أن انسى المشهد الذي يوقظه فيه فجرا...
علاء المفرجي

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

ثامر الهيمص وقد اراد الله ذلك فاستهل النبي ابراهيم عبادته وهو(الدعاء) الذي يعد (مخ العبادة) فدعا الله بقوله: (رب اجعل هذا البلد امنا) فكانت الاولوية للاوطان وليس للاديان دون تعارض. (رحيم ابو رغيف /...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram