ستار كاووش
لقد بلغ لوكاس الخمسين من العمر، وقد علِمَ الجميع بهذه المناسبة المهمة، حيث إنتشرَ الخبر بسرعة في كل القرية، وتأهب الكل للإحتفال بهذا اليوم المجيد، وأينما أذهب يواجهني سؤال حول الحفلة. في السوبرماركت الوحيد الموجود في القرية يطل عليَّ العجوز يوهان متسائلاً (هل ستأتي الى حفلة لوكاس؟ فقد بلغ الخمسين)،
وفي الشارع تداهمني العجوز ماريكا قائلة (هل ستحضر لوحدك أم بصحبة أحد الى الحفلة التي سيقيمها لوكاس؟ فقد صار عمره خمسين عاماً)، أحاول تناسي الجميع وأنشغل بسقي الزهور في الحديقة الخلفية للبيت، فتترك الجارة يانكا الغسيل المنشغلة بتعليقة على الحبل، وتمد رأسها متسائلة (هل عرفت بحفلة لوكاس التي سيقيمها قريباً؟ فقد وصلَ الى الخمسين)، جرَّبتُ التخلص من إعادة سماع الخبر الذي إنتشرَ كالنار في الهشيم بين أبناء القرية ودخلتُ البيت تاركاً ورائي هذا الموضوع الذي صار يتكرر مثل فقاعات الصابون التي ينفخها الأولاد ظهيرة يوم الأحد. وما أن وضعت قدمي في غرفة المعيشة، حتى رنَّ جرس التلفون، وجاء صوت الجار ديريك (لوكاس سيقيم حفلة كبيرة بمناسبة ميلاده الخمسين. هل تحب أن أمر عليك لنذهب إليه سوية؟) ياإلهي، لا أعرف أين أذهب كي لا أسمع الخبر الذي بدأ ينتشر كضوء الشمس فوق حقول درينته. حاولت الخروج وإذا بصوت التلفون يرن من جديد، ترردت هذه المرة لكني رفعت السماع قائلاً بحزم (أعرف ان لوكاس سيقيم حفلة وأعلم بأنه قد بلغَ الخمسين، وأدري إن الجميع يدري بذلك…) فقاطعني الصوت القادم من الطرف الآخر ضاحكاً (أنا لوكاس، وأدعوك لحفلة عيد ميلادي. لا تشغل نفسك بهذه التفاصيل التي يتناقلها أهالي القرية، فليس لديهم ما ينشغلون به. أعرف إنك تعرف لكني وددتُ أن أدعوكَ بنفسي لتشاركنا الحفلة، فسيكون كل شيء ممتعاً) فضحكت ضحكة طويلة، قابلها لوكاس بواحدة مماثلة. هنأته مقدماً، ورحبت بدعوته التي سألبيها حتماً.
جاء اليوم الموعود، حيث وُضعت دمية كبيرة بإرتفاع خمسة أمتار، من النوع الذي يُنفخ ويُملأ بالهواء، لرجل أشيب يبدو كعملاق يفتح ذراعيه ويمسك بقنينة نبيذ، وقد ثُبِّتَتْ على سترته دائرة بيضاء صغيرة بحواف مسننة تشبه تلك التي تُثَبَّتْ عليها أسعار البضائع في الإعلانات، وفي وسطها كُتِبَ رقم خمسين. وبجانب الدمية الضخمة إنتصبت يافطة صغيرة كتب عليها (إبراهام) بخط غير منتظم، بصبغ أسود من الذي يستعمل في طلاء بوابات وأسيجة المزارع، وقد حصل لوكاس على هذه الدمية، كهدية من زوجته هندريكا التي تصغره بسنة واحدة، وتنتظر أن يجلب لها لوكاس في السنة القادمة، دمية لإمرأة بذات الحجم، ويكتب قربها (سارة)، مع رقم خمسين. وهذا جزء من التقاليد الهولندية التي يسمي فيها الناس من يبلغ الخمسين من العمر إبراهام إن كان رجلاً، وسارة لو كانت امرأة.
حين وصلت الى مكان الحفلة، وجدتُ الكثير من الجيران قد سبقوني الى هناك، وتجمعوا في الحديقة الواسعة، وقد إنتشرت رائحة العشب الذي جزَّهُ لوكاس في الظهيرة، وبدت الحديقة مثل سجادة خضراء مترامية الأطراف. وضعت قنينة النبيذ التي جلبتها معي على الطاولة التي امتلأت بالهدايا المغلفة بورق لامع وملون، وهي تتلألأ تحت الضوء كإنها أحجاراً كريمة، فيما إصطفت على جانب الطاولة المحاذي للحائط، قناني الشراب التي جلبها أهل القرية. لكن أين لوكاس؟ هكذا تساءل الجميع وهم يبحثون عن المحتفى به، لنسمع صرير بوابة الكوخ الكبير في خلفية الحديقة، التي إنفتحت فجأة وظهرَ منها لوكاس وهو يدفع العربة المليئة ببراميل الجعة التي إنتصبتْ بهيبة، وإصطفت في جوانبها السفلية رؤوس حنفياتها النحاسية الصغيرة. (هورا هورا…لقد وصل) هكذا صاح الجميع، وبدأت التهاني والتبريكات. وقد وقف لوكاس مثل بطل قومي وهو يفرك يديه الخشنتين اللتين جرَّ بهما العربة، وأخذ يُعَدِّلَ من وضع قميصه الذي أرتفع قليلاً وبانت بطنه، فيما قفز إبناه الشابان بشعرهما الأشقر القصير، نحو العربة وهما يتفحصان البراميل. ولم تمر لحظات حتى إنفتحت صنابير الشراب الأصفر، وبدأ الجميع غناء الأغنية الشهيرة لعيد الميلاد. وفيما إنشغلَ الجميع بالغناء، لمحتُ طاولة بعيدة مليئة بأطباق سمك الهارينغ الذي يُعتبر أساسياً في مثل هذه الحفلات. ومع انتهاء الأغنية سحبتُ نفسي نحو طاولة السمك، وهناك وضعتُ القدح على الطاولة وملأت طبقي بقطع الهارينغ، ثم وقفتُ مستمتعاً وأنا أنظر الى الجيران الذين إنغمروا بحكاياتهم وأحاديثهم، فيما إستقر في الخلفية البعيدة بقايا ضوء الشمس البرتقالي على رأس الدمية الضخمة التي وقفت بثبات، وكإنها تُعلن عن بداية الحفلة