طالب عبد العزيز
أنتزعُ من ساعات اليوم واحدةً، آخذُ فيها بعضي الى القرى النائية، حيث تكون السباخُ مأمناً، في الوهاد التي يحتضنها الشط، والتي لا يحتضنها أحدٌ، في المجاهيل الجنوبية التي كانت، علني أجدُ ضالتي برؤية من يعتمرُ غترته كما كان يفعل أبي، يرمي بطرفيها الى الخلف من قذال رأسه،
ويستر بمقدمها جبهته، فيبدو قطعة لطف ورأفة، فهي تزيده تواضعاً وبشْرا، فقد كرهتُ الذين ينصبونها، مصبوبةً على رؤوسهم، لتزيدهم نفاجةً ومباهاة، هذه الروح المتعالية، التي تبثُّ الرعب في روع الناظر، الغريبة على جغرافيا الجسد البصري تربكني، تجعلني خائفاً وذليلاً. في طياتها، بالعقال المنفوش شيءٌ مقزز، هناك كِبرٌ ومنابزة، وجسد ينطوي على كراهة أحد، وتعلوها ما تضمرهُ الوحوش في سرِّها.
لم يعتن عامة أهلنا في الوسط والجنوب بما يضعونه على رؤوسهم. اطالع الصور التي في حافظتي الورقية، أو التي تردني على الشبكة الالكترونية فأجدُ وجهاً واحداً، غير منشطر في ذاته، يفيض رحمةً، وإن أذله الدهر، وجارت عليه أوامر ونواهي الغير المتجبر، أحبه في فقره، وأحبه في عوزه، وانحني له في قبوله بما آل اليه، وانتهى فيه، فهو الكائن المسالمُ، الذي يهبُّ اليك لا لجاه عندك، ويقف الى جوارك لا لينابزك في طولك، ويفرح بثوبه الجديد متمنياً لك مثله، يمدُّ يده اليك، فيصافحك بقلبه، لا ليريك قوته، ويبتسم في وجهك باسنانه النخرات لا ليفاخر باسنانه الزركون، يعانقك، ويقبلك، ويلصق روحه بروحك، لا ليجعلك تشمُّ عطره، إنما لتتحسس عن يقين أجنحةً قلبه، وهي تطير فرحةً بك.
أحتفظُ بصورة تجمع أبي بشقيقه وأخي، صورة التقطها ابن عمٍّ لي، في نهاية ستينات القرن الماضي، لكنني أخجل من نشرها، إذْ، يظهر الثلاثة فيها بملابس الارض، عائدين من الحرث والكري والسقي والجني، فقد نزل الثلاثة، كلٌّ من نخلته تواً، فذهب أبي الى النهر يسبغ وضوءه، وأكلت المسحاة بعضاً من دشداشة عمّي، ونهشت الشمس كتفي أخي، ولم تأتِ الحاجة على أيديهم حسب، إنما أنشبت عروقُها في أيديهم وأعناقهم وأرجلهم، فلا غترة تقي وتخفي، ولا ثوبٌ يستر، كان قيض وتقطع أنفاس، ولا وقتٌ لهبوب. حاولتُ تمرير الصورة على الفوتوشوب، قلتُ أعيد هندامهم، فأرتقُ بالفأرة السوداء، التي تحت يدي ثيابهم، وقد بليت، أشتري من سوق الالوان في الحاسبة بياضاً لوجوههم، أهدم حائط بيتنا الطيني القديم حيث وقفوا، ووقف الدهر صامتاً، استبدله بآجر من اليونان، هو متاح في صفحتي على الفيسبوك؟ لا، قلتُ:
مات اخي في الحرب، فحرّمت أمّي فراش القطن على جسدها، ظلت على حصير الخوص نائمة، ولم تستبدل وسادتها، التي أبلتها بالدموع ثلاثة عشر عاماً. لم ترتد ثوباً جديداً، ولم تغادر البيت الى كعبة وضريح. احتفظ بصورة لها، جالسةً، شعرها منسرحٌ وأبيض مفروق في منتصفه، وثوبها محكوك أسود، ترقعّه، كلما صارت في غيره. لا أعرف من التقط الصورة لها، لكنَّ الشتاءَ جعل الشمسَ عزيزةً، فهي تستظهرها بكتفين التأما طويلا، وتستقبل عين الكاميرا بوجه طالته آلةُ الفقد، وغادرته مواسم الفرح الى البعيد، ولأنَّ الصورة بالابيض والاسود فقد كان جوف غرفتها مظلماً، لكنَّ الظلال كانت تتسع حولها، ومن الباب الموارب تنبعث رائحة الارض، ويظهر نصفها مستسلماً للألم والظنون.
بين ثياب أبي وشقيقه وأخي في الصورة الاولى ومجلس أمّي، حيث لم يزل الباب موارباً الى الآن نصف قرن ويزيد لا أجدني قادراً على زحزحة أيٍّ من الصورتين، أنا فقير لذلك البلى، معْوّزللخسارات تلك، بائس لا أملك رشداً، فلم أكتب نشيداً يليق حتى، لكنْ قولوا لهؤلاء القبحاء: أنا مريضُ بالشجن القديم ذاك، ولستُ قادراً على ترويع قلبي أكثر.