اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > موبي ديك خزّان من الاستعارات الرياضياتية

موبي ديك خزّان من الاستعارات الرياضياتية

نشر في: 9 أغسطس, 2023: 12:06 ص

لطفية الدليمي

الثقافة الحقيقية هي العلم والادب والاقتصاد والسياسة وكلّ المناشط البشرية. طالما نشط الانسان في حقل ما على المستوى الفكري فيكون لزاماً عدّ ذلك النشاط عنصراً في الخارطة الثقافية الانسانية.

الحياة البشرية كلها ميدانُ ثقافة. لاأطيق التفكير بالثقافة وكأنها صندوق مقفل على ذاته يضمُّ شعراً ورواية ومدوّنات تاريخية وأدبيات سياسية،،،، إلخ. لاصناديق مقفلة ومعزولة في الثقافة، ولاجزئية في الحياة يمكن عدُّها بعيدة عن إمكانية التناول الثقافي. ربما عضّدت نظُمُنا التعليمية التقليدية عناصر الفصل بين مكوّنات الثقافة الانسانية؛ لكنْ يبقى الفرد هو المُعَوَّلُ عليه، وبجهده الذاتي غالباً، في إستكشاف الروابط الواضحة أو الخفية بين مكوّنات الثقافة الانسانية.

أذكرُ قبل سنوات تسنّى لي فيه معاينة غلاف كتاب عنوانه (بحثاً عن الجمال) لمؤلفه ف. سميلجا. توقّعتُ أنّ يتناول الكتاب موضوعات الجمال الكلاسيكي في الفن والادب على الشاكلة التي إعتدناها آنذاك. بعد مطالعة الصفحة الاولى علمت أنّ المؤلف يحملُ شهادة دكتوراه في العلوم الرياضياتية والفيزيائية، ثم بعد قراءة صفحات أولى من الكتاب تكشّفتْ لي الحقيقة: هذا كتابٌ يتناول الجمال المخبوء في الرياضيات (أو بعبارة أكثر دقة: في الأنساق الرمزية التي تمثل الرياضيات مثابتها العليا). كان ثمة دافعٌ خفي يحفزني على قراءة الكتاب، وقد فعلت. كم أنا ممتنّة لذلك الكتاب صغير الحجم والذي فتح لي أفقاً جديداً في الثقافة وكشف تفاصيل كانت مغيّبة في ثقافتنا العامة.

الرياضيات لغة، وهذا أصلُ إشكاليتها المفاهيمية في ثقافتنا العامة. إنها لغة ومنظومة تفكير رمزي قبل أن تكون مجموعة تقنيات. لم أزل أذكر تلك الحكاية الجميلة في كتاب سميلجا والتي تكشف عن حقيقة أنّ الرياضيات لغة قبل أي شيء. يحكي سميلجا أنّ البروفسور ويلارد غيبس Willard Gibbs، وهو أحد أعاظم الفيزيائيين الامريكيين أوائل القرن العشرين - وكان أستاذاً في جامعة ييل الامريكية المرموقة – سُئِل عن رأيه في تقليل حصص الرياضيات مقابل زيادة حصص اللغات؛ فأجاب باقتضاب: " الرياضيات لغة!! ". نلمح في جواب غيبس بعض خصائص الرياضيات وهي الاقتصاد في التعبير والابتعاد عن الاطناب اللغوي الذي لايعدو أن يكون رغوة لغوية.

الكتاب الثاني الذي طوّر نمط تفكيري وشغفي بطريقة التفكير الرمزية هو كتاب (الرياضيات والبحث عن المعرفة) لمؤلفه البروفسور موريس كلاين Morris Kline، المؤلف الموسوعي الذي تناول في كتبه الكثيرة عرض الاسس الثقافية للرياضيات ومناهضة المقاربات القائمة على أساس أنها مجموعة حِيَل لحلّ مسائل تقنية في سياق محدّد. أما الكتاب الثالث فهو ذلك الذي كتبه الفيلسوف الفرنسي آلان باديو Alain Badiau وعنوانه (في مديح الرياضيات)، قرأته بالانكليزية وهو غير مترجم إلى العربية. الرياضيات – باختصار - هي إحدى المنجزات الحضارية الرائعة للانسان على الصعيد الرمزي.

* * *

في كتابٍ صادر حديثاً بداية شهر نيسان (أبريل) الماضي 2023 نشرت الاستاذة سارة هارت Sarah Hart كتاباً عنوانه (حدث ذات عدد أوّلي Once Upon A Prime). الاجمل من عنوان الكتاب الرئيسي (الذي قد يبدو مخاتلاً وغامضاً بعض الشيء) هو عنوانه الثانوي الذي يكشف عن حقيقة مسعى الكاتبة: الروابط المدهشة بين الرياضيات والادب.

تعمل هارت أستاذة مميزة للرياضيات الصرفة في كلية بيربيك بجامعة لندن، وهي إحدى أنشط الكاتبات في ميدان الجوانب الثقافية والحضارية للرياضيات. دَرَسَتْ هارت في جامعة أكسفورد، وحصلت على شهادة الدكتوراه من معهد مانشستر للعلوم والتقنية.

تبدأ المؤلفة كتابها بمقدمة شديدة الامتاع تحكي جانباً من تاريخها الشخصي مع الادب؛ فتقول أنها لطالمت عرفت أكداساً من الكتب التي يصفها المعتمد الادبي السائد بأنها " كتبٌ يجب أن تُقرَأ "، ومنها رواية موبي ديك. تعقّب الكاتبة أنها ماطلت كثيراً في قراءة هذه الرواية حتى جاء يوم إعتزمت فيه قراءتها من غير نكوص أو تأجيل؛ فاكتشفت مكامن الجمال الذي لايخفى لكل عقل شغوف. ترى الكاتبة أنّ موبي ديك " خزّان من الاستعارات الرياضياتية "، وفيها إشارة إلى شكل رياضياتي يسمى الدُوَيْري Cycloid "، ثم تخوض الكاتبة في الاشارة إلى روائيين إحتوت أعمالهم تضمينات رياضياتية، ومن هؤلاء: ليو تولستوي، جيمس جويس، آرثر كونان دويل، تشيماماندا نغوزي أديتشي، مايكل كريكتون (الذي كتب الحديقة الجوراسية Jurassic Park. حوّلها ستيفن سبيلبيرغ لاحقاً إلى فلم سينمائي). تؤكّد الكاتبة أنّ الاشارات الرياضياتية إلى الاعمال الادبية يمكن تتبعها في أحد أعمال أريستوفانيس المسمّى الطيور The Birds المكتوب حوالي عام 414 قبل الميلاد. تكتب المؤلفة بشأن العلاقة بين الرياضيات والادب وطبيعة مسعاها اللاحق في الكتاب:

" الروابط الاكثر جوهرية ورِفْعَة بين الرياضيات والادب لم تلقَ الاهتمام الذي تستحقه. هدفي في هذا الكتاب هو إقناعُك بأنّ الرياضيات والادب ليسا مترابطين بكيفية وثيقة وأساسية فحسب؛ بل أسعى لما هو أكبر من هذا: إنّ فهم هذه الروابط يمكن أن يعزّز منسوب متعتك عند التعامل مع كليهما.... "

لطالما صُوّرت الرياضيات في العادة بأنها مسعى منفصل عن الفنون الابداعية بعامّة؛ لكن الحقيقة أنّ الجدران العازلة بينهما هي فكرة حديثة العهد لأنّ الرياضيات كانت عبر التاريخ جزءاً أساسياً في العّدّة المفاهيمية والثقافية لكلّ إنسان متعلّم Educated. على سبيل المثال لانجد في جمهورية أفلاطون تلك الثنائية المصطنعة في تقسيم المنهج الدراسي المثالي إلى (رياضيات) و (آداب). نحن من نكرّس هذا التقسيم المصطنع ونحن نعيش ثورات العلم والتقنية التي كانت أحلاماً بعيدة المنال لأفلاطون!!.

توضح الكاتبة العلاقة الاساسية بين الرياضيات والادب في سياق هذه العبارات الواردة في المقدمة:

" لطالما أحببتُ الانماط Patterns: أنماط الحروف أو الاعداد أو الاشكال. أحببتُ الانماط حتى قبل أن أعرف أنّ ماكنت أفعله يسمى رياضيات، وشيئاً فشيئاً صار واضحاً لي أنني في طريقي لأكون رياضياتية؛ لكنّ الامر لم يخلُ من تبعاتٍ غير مرغوبة. تبعاً للنظام التعليمي البريطاني في العقود الاخيرة باتت الرياضيات تُعامَلُ حصرياً على أساس كونها موضوعاً تختصه العلوم فحسب، وأبعد مايكون عن الانسانيات. لو أردتَ دراسة الرياضيات بعد أن تبلغ السادسة عشرة فيتوجّبُ عليك إختيارُ الحقل العلمي دون الادبي.....

أذكرُ في حصّتي الاخيرة في درس اللغة الانكليزية بمدرستي الثانوية عام 1991 أنّ معلّمتي ناولتني قائمة طويلة - مكتوبة بعناية وخط متقن – تحوي عناوين كتب رأت أنها ربما تتناغم مع ولعي الذي تعرفه. قالت لي المعلّمة بكلمات حزينة: " آسفة لأننا خسرناك وربحتك الرياضيات!! "...... ".

بعد المقدّمة الثرية تنطلق الكاتبة في متن كتابها الذي وزّعته على ثلاثة أقسام ضمّت بمجموعها عشرة فصول. تناول القسم الاول الرياضيات في سياق الهيكلية والابداع والمحدوديات، وضمّ عناوين من قبيل: أنماط الشعر، هندسة السرد. تناول القسم الثاني الانماط السردية في الرياضيات، وضمّ فصولاً هاكم بعض عناوينها: الرمزية العددية في الرواية، الاستعارات الرياضياتية في الرواية، رياضيات الاسطورة. تناولت الكاتبة في القسم الثالث أعمالاً أدبية محدّدة صارت فيها الرياضيات هي الحكاية الاطارية الأساسية.

* * *

يروق لي في نهاية هذه المراجعة الموجزة لكتاب الاستاذة هارت أن أشير لمقالة كتبتُها قبل نحو خمس أو ست سنوات، عنوانها (أنا روائي؛ إذن أنا أكره الرياضيات!!)، أشرتً فيها إلى أننا غالباً مانسمع تصريحات لبعض الشعراء أو الروائيين أو المشتغلين بالحقول الأدبية عموماً تعلن كراهيتهم للرياضيات حد التفاخر بهذه الكراهية، وأنهم يرون الرياضيات متطلّباً تحليلياً معقداً لايتّفق مع الاشتغالات الأدبية ومَلكة التخييل التي تتطلبها صنعة الأدب.

الرياضيات والادب منبعان لاينضبان للفتنة والجمال والخيال الممتد بلا حدود. هذه الحقيقة هي بعضُ مايتلمّسُ قارئ هارت مصداقية شواهده الرفيعة التي حفل بها كتابها المدهش.

Once Upon a Prime: The Wondrous Connections Between Mathematics and Literature

Sarah Hart

Flatiron Books

304 pages

2023

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram