حيدر المحسن
أستعيرُ هنا خطأً درج عليه الشّعراء والنقّاد عندنا، وهو إطلاق اسم (الشّعر الشّعبيّ) على ما يُكتب باللغة المحكيّة أو العاميّة أو المحليّة. سمّها ما شئت، لكنها تبقى لساننا الأقرب إلى القلب، والذي يختبئ المرء به، كما يقول المثل، ويشرح بواسطته نفسه إلى العالمين. الشّعر الذي يأتينا باللهجة العراقيّة مهمّ، ومهمّ جدّا، لأنه أقرب إلى الوجدان والحقّ من كثير ممّا أتحفنا به شعراء الفصحى، ويماثل في روعته ما قاله الرّحابنة في لبنان، والشّعر في الأخير عاطفةٌ وحقيقةٌ...
لستُ هنا في مجال دراسة الشّعر الشّعبي أو البحث عن اسم آخر، فالخطأ عندما يشيع يصيرُ صوابا، وهناك كلام يتحدّثه النّاس بالعاميّة ارتجالا، وفيه ما نطلب من بلاغة وحُسن صورة كيف دار وأين بلغت غايته، لكنه غير موزون ولا مقفّى، فهو إذن (نثر شعبيّ)، ويختصّ به بحثنا هذا اليوم.
ذكر الجاحظ في (البيان والتبيين): "ليس في الأرض كلامٌ هو أمْتَع ولا أنفع، ولا آنقُ ولا ألذُّ في الأسماعِ، ولا أشدُّ اتصالًا بالعقول السليمة، ولا أفْتق لِلِّسان، ولا أجْوَدُ تقويمًا للبيان، مِنْ طُولِ استماعِ حديثِ الأعراب الفصحاء العقلاء، والعلماء البلغاء". الفصاحة هي فنّ الكلام، على أن يكون واضحا ومؤثّرا، والبلاغة هي إبلاغ السامع المراد. يمكن إذن أن يكون القائل أمّيّا ويأتينا منه الدّرّ المنثور.
في الأسطر التالية تدوين لكلام امرأة تعرّفتُ إليها في أثناء العمل. كانت تزورني كلّما شعرت أن قلبها أخذ يضطرب، فَأدوّنَ لها في نهاية الفحص ما يُذهبُ عنها وعنه الرّوعَ. تتكلّم السيّدة بالحِكم والأمثال والوصايا، وكلّ ذلك من تأليفها، أو توليف خافقها العليل، ولأنها فلّاحة لا تقرأ وتكتب، فحديثها يقع في باب النّثر الشّعبيّ:
"شِلّكْ بالروح تباريها | أوّلْها الموت وتاليها"
تُحدّثُ الفلّاحة نفسها وهي تدخل عليّ بهذا الموّال، وفيه انتصار على التعاسة التي سببها المرض بطريقة غير عاديّة، غامضة وجميلة، انتصار من النوع الفنّي إن صحّ التعبير. أسألها كيف حالك، وتقول ارتجالا:
"زِينينْ مو زينين عايشين. محّدْ يشيلْ ألم اِلبداخلك. ليش ما تخلّي ملح عليه وتسكت. الجرح البيك محّد يشيله. خلّي ينزف على كيفه، والله يجبره. الله كريم. الله ما ينسى أحدْ. لكن العبد ينسى".
في أثناء فحص العجوز، أتناول القلم وأدوّن ما تقوله، لأنّ في حديثِها قوّة إنسان حُرّ وتاريخ أرض مفلوحة طيّبة، وأنا إليهما في حاجة، مثلما يحتاج الفؤاد المريض إلى العقار. لقد تبادلنا الدَّور أنا والسيّدة الفلّاحة، المريض صار هو الحكيم، وطبيبٌ يداوي النّاس...
في كلام الجاحظ عبارة هي "طول استماع حديث الأعراب..."، فالسمع يجب أن يدوم لبعض الوقت، من أجل أن يجري الكلام في دخيلتنا، لنستقي منه على مهلٍ ما فيه من حُنُوّ إنسانيّ. هل كان لسان السّيّدة العجوز مشدودا بنسعة، تقوم بحلّها ما إن تزورني، لأن صوتها يظلّ يهدر بالحكمة، وتخاله لا يتوقف إلى الأبد:
"الشكوى تنزّل القَدَر. اصبرْ وخلّي ملح عالجرح واسكتْ. ذاك مِن ذاك اللي يحسّ بيك، والشكوى مذلّه. الوفه (الوفاء) أصل بني آدم، بس وين أكو وفه. الغريب يحنّ عليك ويقدّرك، وأقرب الناس إلك يخونك".
في فجر يوم شتويّ كانت العجوز ذاهبة إلى الحقل، وصدمتها سيّارة مسرعة يقودها شابّ أهوجُ وغافل. رغم آلامها والسّحجات في ذراعيها ووجهها، ظلّت العجوز تركض وراء العجلة، لكنها غابت سريعا في ستار الفجر. قلتُ لها:
- لو افترضنا أنك أمسكتِ بالسائق، فماذا أنت فاعلة، وهو رجل وأنت عجوز؟
بضراوة لبؤة، رفعت الفلّاحة سبّابتها اليمنى والإصبع الوسطى في وجهي، وأخذت تُقسم أنها سوف تشدّ فوطتها قيدا حول ساعديه، وتقوده إلى مركز الشّرطة مثل شاة. لو رأيتم العزم والتّصميم في عينيها لما شككتم في صحّة ما تقول.
"أكو واحد ياكل ويشرب وياك ويخونك لأنه غير أصيل. السنين اللي عشتها وياه راحت وباعها بغرور الدنيا. شوف منو تاتاله (أغراه وخدعه) وقشْمَرَهْ. الدنيا كلها قَشْمَريّات. ذاك من ذاك اليوفي".