هنادي نجم عبد الله
يعد فيلم باربي الذي بدأ عرضه في صالات السينما الشهر الماضي أول فيلم خارج إطار الرسوم المتحركة عن الدمية باربي التي تصنعها شركة الألعاب الأمريكية ماتيل. ومنذ أن أُعلن عن بدء العمل على فيلم جديد عن الدمية الشهيرة في 2019، أظهر الناس حول العالم ترقباً منقطع النظير استمر حتى موعد العرض في 21 تموز من هذه السنة، فاكتسح اللون الوردي واجهات المتاجر ودور التصميم، بل حتى وقد حرص مرتادو السينما ارتداء اللون الوردي لحضور هذا الفيلم.
حبكة الفيلم
تتناول قصة الفيلم شخصيته الرئيسية باربي في عالم "باربي لاند" الذي يبدو مثالياً لساكنيه، ولكن سرعان ما يتلاشى هذا الوهم عندما تراود باربي أفكاراً وجودية مقلقة عن الموت والحياة لا تعلم مصدرها، فتقرر أن تبدأ رحلة بحث عن مصدر الأفكار هذه، فتسافر إلى عالم الإنسان (العالم الحقيقي) ويرافقها في هذه الرحلة شريكها كين، ليكتشفا سويةً ملامح هذا العالم الغريب وتحدياته فيعودون لعالم باربي محملين بأفكار جديدة تؤدي لأحداث غير مسبوقة في باربي لاند.
سيأخذك الفيلم في رحلة لم تتوقعها
يرتاد معجبو باربي حول العالم السينما وهم على الأرجح متيقنين بأنهم سيشاهدون فيلماً خفيفاً وكوميدياً قد يكون طفولياً حتى، ليقضوا وقتاً لطيفاً مع أصدقائهم أو حتى أطفالهم. ولكن الفيلم يحرص على تهديم هذه التوقعات بالكامل منذ البداية، حيث تظهر في المشهد الافتتاحي فتيات صغيرات تلعبن دور الأم مع دميات تشبه الأطفال، فتنبثق باربي بزي غير تقليدي ومثير، متحديةً الأشكال التقليدية لدمى الأطفال التي غالباً ما تعزز دور الأم السائد عند البنات الصغيرات. ومن هنا يبدأ الفيلم بأخذنا في جولة في عالم باربي ومواطنيه المرحين المبهجين. أهم ما نراه في هذا العالم هو الأدوار المتنوعة والقيادية التي تحتلها المرأة فيه، فكل إمرأة هي باربي، وكل باربي لديها دور أروع من الثاني، فباربي قاضية وباربي طبيبة وباربي محامية وباربي رائدة فضاء. والبطلة الرئيسية باربي، والتي يشير إليها الفيلم ب"باربي التقليدية" لتفريقها عن باقي الشخصيات اللاتي يحملن ذات الاسم، تعيش أجمل أيام حياتها وهي تشارك المواطنات الأخريات أجمل ما في هذا العالم الوردي. يبدأ عالم باربي التقليدية بالاختلال عندما تتساءل فجأة إن كان قد راود أحداً غيرها أفكارٌعن الموت. وبعد أن تبدأ حياة باربي بالزعزعة نتيجة هذه الأفكار الدخيلة، تقرر البحث عن أجوبة فتذهب لباربي أخرى غريبة الأطوار ترشدها إلى مصدر هذه الأفكار وتوجهها إلى الطفلة التي تقتني باربي التقليدية وتلعب بها من العالم الحقيقي، وهو عالم الإنسان.
تدور الأحداث المذكورة آنفاً في أول عشرين دقيقة من الفيلم، حيث يعلن الفيلم في هذه البداية إعلاناً صارخاً عن أنه سيكون فيلماً ذا رسالة عميقة تخالف توقعاتنا عن حياة باربي الوردية، ووجدت نفسي منبهرةً بهذه الالتفاتة الذكية لدمية ترتبط بالسعادة والطفولة والمرح، فكيف لباربي أن تفكر بالموت؟ بدأ يتشكل لدي هنا تصوراً عما سيكون عليه الفيلم، ولكن سرعان ما قوبلت توقعاتي بالمفاجأة، فبدلاً من أن تقتصر الحبكة على مغامرة باربي في البحث عن الطفلة وحل لغز مصدر أفكارها السوداوية، أخذ الفيلم منعطفاً غير متوقع حيث صار التركيز على كين أيضاً، عندما يفترق طريقه عن باربي ويستكشف عالم الإنسان وحده، فيكتشف وينبهر بالدور الذكوري السائد في العالم الحقيقي، خلافاً للدور المحدود لكل من يحمل اسم كين في عالم باربي.
الرجل هو العدو
بعد أن تجد باربي الطفلة المنشودة وتحل لغز مصدر الأفكار المظلمة التي غيرت حياتها، وبدلاً من أن تسمح للفريق التنفيذي في الشركة المصنعة ماتيل أن يعيدوا ضبط إعداداتها لتعود لعالم باربي دمية سعيدة ومرحة، تقرر الهرب مع الإنسانتين اللتين تقتنياها كدمية، جلوريا وابنتها ساشا، والعودة معهما لعالم باربي. تدخل باربي عالمها لتجد أن كين، بعد أن تأثر بعالم الإنسان، قد أسس دولة ذكورية بامتياز وقد غسل أدمغة مواطنات عالم باربي ليحصر دورهن في خدمة وتلبية رغبات كين ورفقائه، لتبدأ حبكة جديدة تتركز في المواجهة بين باربي ورفيقاتها وكين وحلفائه. تُتوج جهود البطلة باربي وجلوريا وساشا بالنجاح عندما يكتشفن طريقة لإيقاظ الأخريات من غسيل الدماغ الذي يتعرضن له وقلب كين وحلفائه من حاملي نفس الاسم على بعضهم البعض، وبينما ينشغل كين وشركاؤه بالاسم بالشجار فيما بينهم، تستولي مواطنات باربي لاند على العالم مرة أخرى وتعلنّ السلطة.
لطالما ارتبطت دمية باربي بالفكرة الجدلية بأنها مناهضة للنسوية، فقدمت الدمية عند تأسيسها في خمسينيات القرن الماضي هيئة معينة حصرت فيها شكل المرأة بقالب واحد وأهملت تنوعها، ولكن سرعان ما واكبت ماتيل العصر وقدمت باربي بأشكال وهيئات وأدوار متنوعة ربما قد أسكتت فيه إلى حد ما امتعاض المعارضين لها، ولهذا فإنه من الطبيعي أن يتطرق الفيلم لهذه الثيمات منذ أول دقائق عرضه، ولكن سرعان ما أخذت الحبكة بالتشتت، فبدلاً من استثمار طاقات الإخراج والتمثيل الرائعة في الحبكة الرئيسية، وقع الفيلم في فخ سياسي سلب الاهتمام من بطلتي القصة باربي وصاحبتها جلوريا واختار أن يقدم حبكة ثانوية صورت الرجل على أنه العدو، وعلى أن فكره محدود لا يتعدى حب الذات والأحصنة، وبدلاً من خلق دولة باربي جديدة يكون فيها الجنسين متساويين، تعود مواطنات باربي لحصر دور الرجل بما يحددنه هن، حتى وإن كان هذا الدور قد توسع قليلاً عما كان عليه في بداية القصة.
في الختام
قد لا تكون أفكار الفيلم سطحية وهو بالتأكيد يحمل رسائلاً وأفكاراً جميلة، ولكن تشتت الحبكة وانعطافاتها والغياب السائد للمنطق خلال أحداث الفيلم ينمّ عن استهانة بعقل وذكاء المشاهد، فالشخصيات تتنقل بين عالمي الإنسان وباربي بكل سهولة وبدون تفسير منطقي، وغسيل كين لأدمغة باربي واكتشاف طريقة الصحوة منه لا تفسير رصين لهما أيضاً، أما تحول باربي في نهاية الفيلم لإنسانة بسهولة بالغة قد يذكرك بنهاية بينوكيو وهو يتمنى أن يصبح صبياً حقيقياً.
بدت الرسائل السياسية في الفيلم، وبالذات تلك عن الذكورية، مصطنعة ولم تُقدّم بسلاسة. ألم يكن من الأفضل أن تكون باربي النجمة الساطعة الوحيدة في قصتها، وأن تقود مهمة تغيير عالم باربي بناءً على الأزمة الوجودية التي تمر هي وجلوريا بها، وعلى ما يختبرانه في عالم الإنسان، بدلاً من افتعال صراع درامي مع كين؟
في النهاية، فإن الفيلم بالتأكيد قد فاق التوقعات، ولكن كان من الممكن أن يكون تحفة سينمائية لو عولج الضعف السائد في تفسير الأحداث غير المنطقية في الفيلم، ولو انصب التركيز على الشخصيتين باربي ونظيرتها الإنسانة جلوريا وهما يفكان تشابك قصتيهما ويخرجان من أزمتيهما سويةً.