ا.د بشرى البستانيتلجأ الشخصية الراوية في رواية ميسلون هادي " حلم وردي فاتح اللون " الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر إلى الحلم ليس هرباً من الواقع ، بل تصميماً على صنع حياة أفضل ، إنها تزرع الأمل مع الورد وتنتمي بالزراعة إلى الأرض متشبثة بها " ثم سرحتُ بالأماكن والزوايا التي سيزرع فيها عمار الشتلات الجديدة التي اشتريتها من المشتل ،
ضحك عمار وأنا أضعها أمامه وقال محتدا أكثر منه مندهشا : من أين تأتين بكل هذه السنادين وكل المشاتل مقفلة ..؟ قلت له : هناك مشتل واحد لا يزال يجازف بالبقاء مفتوحا ويقع قرب نفق الشرطة ، قال بطريقته في الضحك التي تعبر عن الانزعاج ، ألم يغلق أبوابه بعد ، وكل الحواجز مقامة حوله وبالقرب منه ، بل أن سيارة مفخخة انفجرت بالقرب منه قبل اسبوع وأغراض محل ابو الموبايلات غدت شذر مذر ..ص 20 " إن كل ما يحدث للأشخاص على أرضهم في هذا النص يشكل قيمة درامية بذاته ، قيمة لا تنكشف فيها الدوافع والأسباب المعقدة التي أدت إليها صراحة ، بقدر ما توحي بطرائق تصويرها وحواراتها عن المرجعيات المركبة الغائبة التي أنتجتها ولذلك يكمن الماضي القريب والبعيد ثاوياً في أعماق الوقائع ، إن شخصيات الرواية لم ترد في العمل للتعبير عن ذواتها الخاصة ، وإنما تشكلت لتعبر عن جموع كبيرة من الناس ، وهذا ما جعلها حميمة من جهة ومتنوعة من جهة أخرى ، وهي فضلا عن كونها تبدو في أول الأمر في حركة اعتيادية إلا أنها ما تلبث أن تصطدم بواقع العنف الذي يفاجئها في الشارع والبيت وعلى الأرصفة ، فدبابات المحتل وآلته العسكرية من جهة والقتلة المجهولون والمتفجرات والمداهمات وملاحقة الأبرياء لمجرد الاختلاف معهم في الرأي أو الثقافة أو التوجهات أو الدين ، وكل تلك الأمور تسحق بنية المجتمع وتفكك روابطه . لا شك في أن تأثير الإنسان بالمكان واثر المكان في الإنسان أمر قائم بجدل عبر التاريخ ،وقد ركزت الدراسات النقدية الحديثة على أهمية المكان في النص الأدبي وقسمته على أصناف عديدة منها الأليف والمعادي والموضوعي والمفترض ، كما قسموه أحيانا على ثنائيات تشتغل بحركية داخل النص كالساكن والمتحرك والمغلق والمفتوح وغيرها ، وعملية التوازن بين الأمكنة فيما بينها وبين الأمكنة والشخصيات تقنية مهمة تعمل الراوية على الاهتمام بها كل حين ، فهناك فروق شاسعة بين ماكان عليه المكان في أرض الحدث : بغداد ومدن العراق الأخرى من جمال وانسجام وما آل إليه من خراب ، وبين ما كانت عليه حياة الشخصيات من شعور بالأمن ، وما صار عليه الأمر اليوم من فزع ورعب ومداهمات داخل البيت نفسه . إن المكان في الرواية وفي أي نص أدبي هو مكان خاص له مقاصده ورؤاه التي تمثل مقاصد المؤلف ورؤاه السياسية والثقافية ، فللمكان بعده السياسي والاجتماعي والثقافي ، بل هو يملك دورا وجوديا في حياة الانسان منذ بداية الخلق ، حيث كانت مغادرة المكان أول إشكالية في حياة المخلوق قلبتها رأسا على عقب ذلك أن العلاقة بين الانسان والمكان علاقة درامية ، من هنا كان الاعتداء على المكان يعمل بجدل دائم مع الاعتداء على الإنسان ، فكل تخريب للأرض يعمل بعمق على تخريب الذات الإنسانية وتجريحها ، إن إحراق المكان بالصواريخ وأنواع المتفجرات إنما هو اعتداء على الشخصيات وغدر بها ونكاية بأمنها وقمع لحرياتها واقتحام بالخوف للبيوت التي هي مستقر حياة الإنسان وملاذه من مخاطر الخارج وما يكتنفه من مجهول " الآن لم تعد البيوت وحدها محصنة بالأسوار ولكن الشوارع والساحات والجسور شأنها شان السجون والمعتقلات محاطة بالجدران والحصون والسيطرات ، وبين كل جدار وجدار يوجد جدار ..ص 30 " تقول الراوية لعمار فتى الحدائق الذي يرعى حديقة بيتها وهو يريد العودة لأهله في الديوانية بسبب واقع بغداد السيئ والقتل المجاني : " لا تذهب ، ابق هنا في هذا الحي ، وهذا الشارع قد خلا من سكانه او كاد كما ترى ، وأنت الوحيد الذي يأتي إليّ بين صباح وأخر فأشعر بأني على قيد الحياة ..ص 20 " فأي عذاب وأيّ وحشة تشعر بهما الراوية حينما تعدلهما بالموت ، إن العلاقة بين الإنسان والمكان قائمة على تبادل المشاعر والالتحام والتشرب حيث تنمو الدلالة النصية متشعبة متفرعة من خلال تكثيف الفعل الدرامي وتعقيد مساره ، ذلك الفعل الذي يجمع الشخصية والمكان مع العناصر الأخرى وهما في عملية الدمج تلك يقوم كل منهما بالتأثير في الآخر والحفر فيه ، لاسيما أن الإنسان / الشخصية قادر على منح الأمكنة والأشياء قيمتها وأبعادها الذهنية والماورائية ، وقادر على تغيير ملامحها وتشكيلها على وفق أنماط مختلفة وقادرة أيضا على ابتداع بعض أنواعها ، فما أن يطأ الكائن الإنساني مكانا ما حتى تبدأ فعاليات التغيير ليكتسب المكان هوية جديدة وكذلك يفعل المكان بالإنسان والأحداث في الرواية حينما يعمل على دمج العناصر ببعضها مشكلا عنصر بناء فاعل لعناصر السرد الأخرى اذ لم يعد المكان فضاء حاويا محايدا ، ويتسم الإنسان بالإحساس العميق بالمكان ويتبين هذا النزوع المكاني جليا حينما يبتعد الإنسان عن مكانه الأصلي فهذا النزوع يتواصل بوشائج متينة ، حيث يحفر المكان في
ذكاء وحذر يتآزران مع روح مرهفة
نشر في: 16 أغسطس, 2010: 06:46 م