ستار كاووش
كل شيء في حياتنا يمكن أن يتحول الى ابداع يخطف الأبصار، اذا نظرنا له من زاوية خاصة وقدمناه بطريقة مميزة تُظهر مزاياه الجمالية والبصرية. والعين الخبيرة لا يمر من أمامها شيئاً عفو الخاطر، حيث تلتقط التفاصيل التي تبدو عابرة لكنها تتوفر على مسحة خفية من الجمال، لتضعها في المكان المناسب. يمكننا العثور على الجمال في كل مكان،
في الساحات والشوارع والحدائق والفضاءات المفتوحة وحتى الغرف المغلقة، ولا يهم إن كان مانراه كبيراً أم صغيراً، سواء كان طابع بريد أو بناية عالية، ملعقة شاي أو دولاب هواء، مشط خشبي قديم أو بالون يلهو به الأطفال. الابداع الحقيقي هو أن نمسك بشيء يبدو عادياً لغالبية الناس، ونضعه بطريقة ملائمة في المكان والزمان المناسبين، فتغدو النتيجة كمن يضع قمراً في باحة مظلمة أو يزرع شجرة في ساحة مقفرة.
فكرت بهذا الأمر وأنا أتجول في بوليفار (بلايسن بلاين) وسط إحدى حدائق مدينة بروكسل، حيث تسمرتُ في مكاني وصرتُ جزء من معرض في الهواء الطلق، حيث وجدتُ نفسي وسط خمسة وعشرين نحتاً برونزياً للفنان فيليب خيلوك، بحجومها الضخمة التي تجاوزت المترين للعمل الواحد. ها أنا أمشي بين غابة من التماثيل الطريفة التي بسببها صارت الحديقة أكثر اتساعاً وأشد أُلفة. والطريف في هذا العرض الباهر هو إن كل المنحوتات المعروضة تمثل شخصية واحدة فقط، ياللإحتفاء المبهج والجميل حقاً. لكن من هي هذه الشخصية التي تستحق مجموعة كبيرة من التماثيل البرونزية التي تتفوق في عددها ونوعيتها على ما تضمه مدن كاملة؟ والأغرب من كل ذلك هو ان الشخصية التي مثلتها التماثيل ليست لفيلسوف أو شاعر أو ملك، ولا حتى موسيقي أو فنان شهير، بل هي شخصية كارتونية ابتكرها الفنان فيليب خيلوك، وهي عبارة عن القط الشهير الذي أخذ طريقه الى المجلات والقصص والى قلوب الناس ايضاً، وصار جزء من ثقافة المجتمع البلجيكي الذي يحب الجمال والدعابة والبساطة. وكلمة البساطة ربما تكون هي الخيط الأحمر الذي يربط أجزاء حكايتنا هنا، فالبلجيكيين يصنعون الجمال ببساطة، ويمنحونه ببساطة، ويحتفلون به ببساطة أيضاً. ساعتين قضيتها بين المنحوتات التي تسرد بعض حكايات القط الذي صار أشهر من الملك، وأنا أرى الابتسامات وهي ترتسم على وجوه كل من يمرون من أمامها، حتى خلتُ إن مدينة بروكسل تبتسم هذا اليوم كي تبدو صورتها أجمل وهي تحتضن هذه الأعمال المذهلة بتكويناتها وحجومها وطرافتها وشعبيتها، وفوق كل ذلك، البساطة التي تلف الأعمال دون تعقيد ولا تكلف. وبسبب الزحام إنتظرت حتى منتصف الظهيرة، وعدتُ ثانية للتمتع من جديد بمشاهدة التماثيل والتمعن بتفاصيلها، لأن الناس في هذا الوقت يكونون منشغلين بتناول طعام الغداء.
مبدع هذه الأعمال فيليب خيلوك، فنان متعدد المواهب، فهو أيضاً عُرِفَ كممثل كوميدي، وهو ينتمي لعائلة مبدعة، حيث كان أبيه اليساري ديدييه خيلوك رساماً كاريكاتيراً، فيما كان شقيقه الأكبر جان كريستوف خيلوك فناناً غرافيكياً معروفاً. وقد إبتدع فيليب شخصيته الساخرة الشهيرة القط (دي كات) سنة ١٩٨٣ في جريدة لي سوا (المساء)، وسرعان ما أصبح هذا القط تميمة الصحيفة وحضى بشعبية منقطعة النظير، وقد إستمر هذا الفنان برسم قِطَّهُ الشهير في الجريدة لمدة ثلاثين سنة. توقف بعدها فترة من الزمن، ليعود من جديد برسم القط بمغامرات جديدة.
لكن كيف تم العثور على من يرعى هذا المشروع العظيم؟ وكيف تحققت مثل هذه الاعمال المذهلة، فمعرض واحد من هذا النوع يساوي أكثر من كل التماثيل الموجودة في بعض البلدان! ومثل هذا المشروع يُكَلِّف الملايين بسبب حجوم أعماله وغلاء البرونز المستعمل، كذلك صعوبة تنفيذ مثل هذه الأعمال ثم تثبيتها في مكان واحد، لكن النتيجة كانت مذهلة. وقد سرتُ بين الأعمال وكأني أقرأ كتاباً للقصص المصورة، حتى عناوين الأعمال كانت تحمل الكثير من الدعابة والمرح، مثل (غناء تحت المطر)، (قط في جريدة)، (الناي السحري) ،(رامي القرص)، (ظهرنا القوي)، وغيرها من العناوين التي تحمل معاني مزدوجة ومبطنة مقارنة بالهيئة الخارجية للأعمال.
بعد أن عُرِضَتْ هذه الأعمال في باريس وبوردو وجنيف وموناكو، تعود الى بروكسل، مسقط رأس الفنان فيليب خلوك الذي ظهر القط في مخيلته كفكرة ثم أخذ طريقة نحو الصحف ليجد نفسه قد تحول الى برونز وسط ساحات المدن وحدائقها. ودَّعتُ (دي كات) ومضيت نحو شوارع بروكسل وأنا أفكر وأتساءل، هل يمكن أن يحدث مثل هذا في بلداننا؟ هل يمكننا تحويل شخصيات مثل جحا وشيبوب وأبطال ألف ليلة وليلة الى أعمال برونزية كبيرة؟ هل نعرف ان المنحوتات الجميلة لا تقل قيمتها عن البنايات التي نعيش فيها؟ هل قلتُ بنايات؟ لستُ متأكداً بأننا يمكن أن نولي مثل هذا الشيء (الثانوي) شيئاً من الاهتمام.