 طالب الرفاعي *

لسنوات طويلة، اعتدنا السفر معًا: المرحوم الروائي والقاص إسماعيل فهد إسماعيل، والأديبة ليلى العثمان وأنا، وكانت حينها وجهتنا الشام، ودمشق تحديدًا، وقد أخبرني إسماعيل قبلها بأيام قائلًا: "في هذه المرة ستقترب من الرجل وستكتشف معدنه!". كان يقصد المفكر والسياسي والكاتب فخري كريم، الذي سبق لي أن قابلته مرات عابرة في القاهرة. وصلنا مطار دمشق فوجدنا الرجل بانتظارنا وابتسامة مشرقة تغطي وجهه: "أهلًا وسهلًا بأدباء الكويت!"

كانت الأديبة ليلى العثمان تتعرف على فخري للمرة الأولى، وكمن يعرفها خاطبها بودٍّ ظاهر: "كثيرون تعرفوا على الكويت من خلال كتاباتك". ارتسمت ابتسامة على وجه ليلى، فأكمل هو: "ليس أهم وأجمل من الإبداع جسر سلام ومحبة بين البشر!".

في طريقنا إلى فندق الشام، اقترح فخري أن نمرّ قبل ذلك لشقته في منطقة "ركن الدين"، وكعادته إسماعيل في السماحة المطلقة، ردَّ: "كما تريد".، لكن ليلى فضّلت الذهاب أولًا إلى الفندق، وأيّدت اقترحها. ولحظة ننزل من سيارته، مدَّ فخري يده نحوي: "تفضل أستاذ طالب..". رحت أنظر للكتاب، وصوته موضّحًا: "مبروك "مرآة الغبش"، مجموعتك الجديدة". ألجمتني المفاجأة، فلقد كنت قد أرسلت المجموعة قبل فترة قصيرة، ولم أكن أتوقع أبدًا صدورها!

في تلك الرحلة، عام 1997، وقبل ما يزيد على الربع قرن، تعرفتُ عن قرب على ذلك الفخري الكريم، ومن وقتها جرت أنهار الصداقة بيننا. وكان فخري قد أسس 1960 "مجموعة المدى الثقافية" التي تخدم القضايا الفكرية الأدبية والإبداعية والسياسية، ومن خلالها ولِدت "دار المدى" عام 1994، وأصدرت كتبها بشكل لافت أثار بروعته وجدّته انتباه الساحة الثقافية العربية، على مستوى عمق وإنسانية وتقدّميّة وإبداع المحتوى، وجِدْة وإتقان الصف والحرف والإخراج ولوحة الغلاف، بحيث صار حلم كل كاتب شاب عربي إصدار كتابه عنها!

لا أذكر تمامًا كم استغرقت رحلتنا، ربما بحدود الأسبوع، لكنها كانت كافية لتعميد صداقتنا، أنا والعزيزة ليلى بفخري، فإسماعيل صديق قديم لفخري. ووقتها كانت دار المدى مركز إشعاع فكري وإبداعي يجمع من حوله أهم الأسماء العربية في الفكر والشعر والرواية والقصة والمسرح والموسيقى والتشكيل، حتى أن أسابيع المدى الثقافية، التي جاءت بعد ذلك بسنوات، فاقت بتنظيمها وضيوفها وجداول محاضراتها الثقافية، وأمسياتها الشعرية والموسيقية، فاقت بأهميتها الكثير من الأسابيع الثقافية التي تنظّمها وتصرف عليها دول عربية كثيرة! وكم أفخر وأعتز بأن دار المدى احتضنت أهم إصداراتي في القصة والرواية، وحملتني إلى القارئ العربي، مثلما شجّعت ودعمت الكثير من الشباب العربي المبدع!

عام 2003، تأسست جريدة (المدى)، ومنذ لحظة ميلادها كان المدى طموحها لتقديم فكرٍ تقدّمي ووعيٍ إنساني يحمل الإنسان العربي نحو المدى المؤمل. ولِدت (المدى) الجريدة في ظروف سياسية واجتماعية وعسكرية عربية وإقليمية جد خاصة وصعبة ومتغيرة، وضمن هذا أُريد لهذا المشروع الصحفي التقدمي أن يحمل صوتًا مختلفًا، صوتًا يعبر عن الحقيقة العارية، بالرغم من الأثمان الباهظة المترتبة على ذلك.

إن وجود منبر صحافي بقامة (المدى)، إنما يشكّل قبس نور في ظلمة الواقع العربي الحالكة، خاصة وما تتوفر عليه من جراءة وعمق ومصداقية وشمولية، وكل ذلك يأتي بنظرة إنسانية تعيش رتم الواقع مُحاذرة أن تتبلل بأوساخه.

للصديق فخري كريم، لجريدة (المدى)، لدار المدى، لمؤسسة المدى، تحية كبيرة بوسع المدى، فمشروعهم يخصّ المدى العربي، والفكر العربي، والفن العربي، والثقافة العربية، وهو، قبل هذا وذلك، يخص الإنسان العربي بسيره المثقل نحو المدى المؤمل!

كل عام و"المدى": الدار، والجريدة، والمؤسسة تعيش مزيدًا من التألق والتميّز والنجاح.

* كاتب كويتي يعد من أبرز كتاب الرواية العرب