عبد الرحمن شلقم

التراث الإسلامي، لا يغيب عنَّا ولا يمكننا الفرار منه. حاضر في اجتهادات الفقهاء وفي اطروحات المفكرين المسلمين عبر حلقات التاريخ. الأستاذ الدكتور رشيد الخيون، وقف عمره على البحث التاريخي، وفق منهج علمي يرحل فيه بين أمهات الكتب.

كتابه الذي نشره بعنوان ( الغلو والعقاب في الفقه والتراث الإسلامي)، درس فيه عدد من القضايا التي كانت ومازالت، تشغل المفكرين والدارسين، وتحرك التيارات التي ترفع شعارات مشحونة بالتشدد والعنف. ضمَّ الكتاب محاورا كُتب عنها الكثير، واختلفت فيها الاجتهادات الفقهية. خمسة موضوعات درسها الدكتور رشيد الخيون، تتعلق بالعقوبات التي وردت فيها نصوص، وتعددت فيها الاجتهادات الفقهية. الردة والسب والزنى والسحر والكراهية. يقودنا عنوان الكتاب من البداية إلى (الغلو) في العقوبة في تلك القضايا الخمس. كعادته في جميع اعماله، يتسلح الدكتور رشيد بحشد من المراجع القديمة والحديثة، من كل المذاهب والمدارس الإسلامية. يأتي بأكثر من قول واجتهاد في الموضوع الواحد، ويطوف بين مئات المراجع. يفتتح الخيون مجلده هذا، ببيت من الشعر لسفيان الثوري، يضيء لنا منذ البداية خطَّ منهجه.

إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التشددُ فيحسنه كلُّ أحد

ومن الشعر الى محطتين تاريخيتين غير قديمتين، يقف فيهما عند الغلو بدوافع سياسية، تقود إلى التكفير. يكتب الدكتور الخيون ما يلي 🙁 اختلط الدين بالسياسة في هذه القضايا، وصار رجل الدين او الحاكم هما المتحدثان باسم الله، والمدافعان عنه، وأن السلطة سرعان ما تتبنى موقف رجل الدين، حماية لنفسها وطمعا بتأييده، وإن كان الضحية بريئا، وإلا هل تعتقدون أن حاكما مثل جعفر النميري الذي حكم السودان من ١٩٦٩ـ ١٩٨٥ كان حريصا على الشريعة والدين عندما اعلنها ونفذها في الشيخ محمود محمد طه؟. وهل هو احرص من الشيخ محمود طه على الدين والذات الإلهية؟! بذلك يصبح الإنسان مرصودا من قبل من سماهم معروف عبد الغني الرصافي بعبارة ـ بوليس السماء، وهو الآخر تعرض للتكفير، فقال قصيدته في مكفريه، بعد أن القى شعرا في مسرح التمثيل ببغداد في العشرينيات من القرن الماضي، فالتمثيل كان كفرا، ومنها:

يا أيها المفتي بتكفيرنا

مهلا فقد جئت بأمر نكيرِ

بأي جهل فيك مستأصلٍ

علمتَ يا جاهلُ ما في الضميرِ

وذاك أمرُ ليس تنتاشه

إلا يدُ الله العليم القديرِ

افرد المؤلف صفحات كثيرة، للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والأحداث التاريخية، القديمة والحديثة.

وقف الخيون عند التشريعات التي تنص على عقوبات مختلفة في القضايا التي طرحها بكتابه. اورد ما صدر عن الجامعة العربية، بمعاقبة المرتد: وفقا للمادة١٦٣، يعاقب المرتد بالإعدام إذا ثبت تعمده وأصر بعد إستتابته، وامهاله ثلاثة أيام. ويورد المؤلف نصوصا لتشريعات في بعض الدول العربية حول الردة، منها ما يذهب للإعدام، ومنها ما لا يذهب إلى ذلك. ذكر الكاتب أسماء عدد من الشخصيات الذين قُتلوا بتهمة الالحاد والردة، او تعرضوا لحملات إعلامية قاسية.

انتقل المؤلف بعد ذلك إلى قضية السب، واستهل الحديث بفتوى آية الله الخميني التي نصت على قتل سلمان رشدي، بعد صدور كتابه آيات شيطانية باعتبارها سبا في رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعبر المؤلف حقبا تاريخية إسلامية، توالت فيها الأحداث والاجتهادات حول موضوع السب.

يبرر الكاتب وقوفه عند هذه القضية بالقول: لم نأخذ الموضوع بهذا الاهتمام، ليكون فصلا في كتاب عن التطرف والتشدد، إلا لأن العقوبات مفتوحة، على السنة الفقهاء، وبعضهم أطلق تنفيذها لسائر الناس، حتى خارج السلطة الزمنية، أي على السامع التنفيذ في الحال. أتى ابن تيمية بقصة العصماء بنت مروان، وكانت تسيء إلى النبي، فذهب من قتلها، فقال النبي: لا ينتطح فيها عنزان. قيل الذي قتلها هو عُمير بن عدي، وهو من قومها بنو خطمة، وعلى ذلك مدحه حسان بن ثابت، وقد ذكر ابن تيمية ذلك المديح ضمن فصل عقاب المرتد:

فهزت فتىً ماجداً عرقه

كريم المداخل والمخرجِ

فضرجها من نجيع الدماء

قبيل الصباح ولم تخرجِ

ينتقل الكاتب بعد ذلك الى عقاب الزناة رجما. يسطر ما يلي: قد يقول قائل، أين هو تطبيق حد الرجم، كي يُكتب عنه، أو تُشرح احكامه؟. وإن ضبط التهمة وإقرار العقوبة من المستحيلات، لأن الأمر يتعلق بحضور أربعة شهود، ويرون الميل في المكحلة، وإن بعض الفقهاء كأبي حنيفة يرى أن يشهد كل واحد من الأربعة أنه رآها في ركن من البيت يطؤها، في غير الركن الذي رآه فيه الآخر. ويقول ابن رشد معلقا على ما ورد، مع نفحة فلسفية على ما يبدو: وسبب الخلاف، هل تلفق الشهادة المختلفة بالمكان أم تلفق كالشهادة المختلفة بالزمان، والظاهر من الشرع قصده التوثيق في ثبوت هذا الحد أكثر منه في سائر الحدود. بمعنى كم عسير هو إتباث التهمة. اليهودية قالت بالرجم في عدد من القضايا، لكنها تجاوزته الآن. وفي المسيحية، فقد الغى إنجيل يوحنا عقوبة الرجم على الزنى. الشيخ محمد أبو زهرة ينفي وجود عقوبة الرجم. أورد المؤلف ما قاله المؤيدون والمعارضون لعقوبة الرجم في صفحات طويلة.

السحر قضية قديمة، شغلت الناس في الشرق والغرب، وتعددت العقوبات التي فرضت على السحرة. في أوربا شنت حملات على السحرة في القرون الوسطى، وجرى قتلهم. اختلفت المذاهب الإسلامية حول عقاب السحرة. فيها من قال بالقتل، وفيها من قال بغير ذلك.

طاف المؤلف في الأديان والحضارات القديمة، وابرز ما كان فيها من عقوبات القتل، وعقوبات جسدية أخرى، بكل ما فيها من تشدد وغلو يقود الى العنف والتطرف.

خلاصة هذا البحث الطويل هي، أن الحضارة الإنسانية التي يشهدها العالم اليوم، تشدنا الى حزمٍ من القيم، وتضيء لنا العقول، وتهدينا إلى آفاق التنوير والتفكير والعلم. العنف والتطرف والتكفير، أكبر اعداء البشر. الفقهاء عليهم أن ينحازوا إلى التفكير، ويعلنوا الحرب على دعاة التكفير والقتل. ولا مسك للختام أروع من تلك الابيات من الشعر التي قالها الامام المفكر محمد عبده وهو على فراش الموت:

ولستُ أبالي أن يُقال محمدُ

أبلَّ أم اكتظت عليه المآتمُ

ولكنَّ دينا قد اردتُ صلاحه

أحاذر أن تقضي عليه العمائمُ

وللناس آمالُ يرجَّون نيلها

إذا متُّ ماتت واضمحلت عزائمُ