أمينة النقاش*

لم أعد أذكر فى أى كتاب قرأت أن صدور صحيفة جديدة هو إغلاق لباب سجن ، لكننى بت أعرف جيدا معاناة الإصرار على بقاء الصحيفة والعمل المضني لاستمرار صدورها ، ليس فقط بسبب أزمة عالمية تتعرض لها الصحافة فى كل مكان لانخفاض إيراداتها وتضخم نفقاتها وعجزها عن جلب موارد تمكنها من تغطية النفاقات ،لكن أيضا بسبب مناخ عربي يضيق بحريات الرأى والتعبير، ويكره الاختلاف ويعادي الحوار ، ويمعن فى الخلاف والعداوة والصدود .

خاضت الصحافة العربية منذ بداياتها الأولي ، حروبا طويلة وعسيرة من الملاحقات الرسمية والمنع والمصادرة والسجن ، دفاعا عن الأوطان في مواجهة المستعمر الغربي بنوعيه القديم والحديث ، ودفاعا عن الحياة الدستورية وعن الديمقراطية وحريات الرأي والتعبير فى ظل أنظمة الاستقلال الوطني، التي كانت ضيقة الصدر مع كل اختلاف ، حتي مع من كانوا يتبنون أهدافها الرئيسية ، ويختلفون معها فى بعض التفاصيل . ولم يتسع صدرها إلا للموالين من أهل الثقة ممن يسلمون لها بكل سياساتها ويبررون لها كل أخطائها . ولا تخلو صفحات التاريخ العربي من الحيل القانونية والدستورية التي ابتدعتها أنظمة مابعد الاستقلال لقمع حرية الصحافة ، والعصف بالمدافعين عنها بالملاحقة والاعتقال والنفي والقتل فى بعض الأحيان .

ولعل ما جرى فى أوطاننا العربية خلال العقدين الماضيين ،من احتلال وغزو وحروب دينية ومذهبية وعرقية وعقائدية ، كان أحد تجليات غياب حريات الرأي والتعبير.وبرغم تغنى كل الدساتير والقوانين والمواثيق الوطنية بحرية الصحافة ، إلا أن قمعها وحصارها وتهميش دورها والتفنن في تغليظ العقوبات فى جرائم النشر والصحافة ، كان كعب أخيل الذي نفذ منه المستعمرون والطغاة لنهب موارد وثروات البلاد ، وحرمان الشعوب من العيش في وطن يكون محلا للسعادة المشتركة لجميع ابنائه ، كما حلم بذلك أباء النهضة العربية الحديثة .

وكان من الإدراك الواعي بالدور الذي تلعبه الصحافة في بناء الأوطان وصنع تقدمها ،أن تصدر صحيفة "المدى" وسط هذه الاجواء العربية والعراقية العاصفة.وكان من الشجاعة أن تستمر في التمسك باستقلالها وأن تتحدى أجواء غير مواتية . وربما من دواعى الدهشة والإعجاب أن تواصل الصدور على مدار عشرين عاما متصلة ، لتغدو شابة يانعة زاهية الحضور برغم ثورة المعلومات الهائلة وما واكبها من تطور مذهل فى وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات ، وما ترتبت علي كل ذلك من تحديات من أجل البقاء وإحداث التأثير .وفي قلب هذا الطوفان ،تمسكت "المدى " بالمهنية والجدية لأجل توسيع نطاق نشر المعرفة والثقافة والحقائق ،وتصدت وهي تفعل ذلك لفضح أنظمة التفاهة و تيار التسطيح وتغيب الوعى السائد في معظم وسائل الإعلام العربى .فتحت " المدى" صفحاتها وأبوابها لكل الاتجاهات والأفكار والأجيال ، ونجحت في إدارة هذا التنوع لأنها جريدة صاحبة موقف ورؤية، ترنو لرسم مستقبل لأوطاننا ترفرف عليه أعلام الحرية والعدالة واستقلال الإرادة الوطنية .

*كاتبة مصرية