ثائر صالح
يقع الباحث أحياناً على اسم يجذب انتباهه، فيبدأ بالتنقيب يعثر خلاله على سلسلة من المصادفات والأحداث المترابطة لتشكّل صورة لم يكن يتوقعها في البداية.
اسم جَلّي دَراني هو مدخل واحدة من هذه المغامرات التنقيبية، فقد خمّنت أن اللقب مجري، وصح تخميني. فهي جَلّي أراني (1893 - 1966)، والدال في دَراني هي للنسبة وفقاً لقواعد اللغة الفرنسية. أختها الأكبر أديلا (1886 - 1962) والاثنتان تعزفان على الكمان بمهارة. تستعمل جَلّي كذلك لقب هونيادفاري الذي منحه امبراطور النمسا - المجر فرانتس يوزف لجدها لايوش جورج أراني لقاء خدماته المتنوعة، بالدرجة الأولى بسبب دوره في تأسيس قسم الطب الشرعي والتشريح الباثولوجي. أما أديلا فقد تزوجت من رجل انكليزي وحملت اسمه، أديلا فاتشيري.
كان عازف الكمان المجري الشهير يوزف يواخيم (1831 - 1907) أخو جدة الأختين. قال عن أديلا أن "مثل موهبتها تظهر مرة في كل مئة عام"، وقد درست عنده في برلين، وورثت عنه كمان ستراديفاري عزفت عليه كونشرتو كمان بيتهوفن في فيينا سنة 1907 في أول ظهور لها على المسرح. درست الشقيقتان جَلّي وأديلا العزف على الكمان في أكاديمية الموسيقى في بودابست عند الموسيقي المجري المعروف ينو هوباي (1858 - 1937). وقد استقرت الفتاتان في لندن مبكراً قبل عام من الحرب العالمية الأولى.
تعد قصة تقديم كونشرتو كمان لروبرت شومان لم تقدم سابقاً من أغرب القصص على الإطلاق. فقد كتب شومان الكونشرتو ليقدمها يوزف يواخيم في سنواته الأخيرة قبل دخوله المصح، لكن يواخيم وبالتشاور مع كلارا زوجة شومان قررا أن يخفيا المخطوطة لأن مستواها لا يليق بفن شومان بسبب مرضه حسب تقديرهما. بقيت المخطوطة عند يواخيم وانتقلت إلى المكتبة البروسية في برلين بعد وفاته ونسيت. وهنا أتت الشقيقتان: اهتمت أديلا بالروحانيات وعقدت جلسات تحضير الأرواح، شاركت في إحداها جَلّي سنة 1933، فظهرت روح شومان فيها وطلبت شخصياً من جَلّي تقديم الكونشرتو. حصلت جَلّي على نسخة من المخطوطة وهيأت العرض الأول مع السير أدريان بولت ليقود فرقة البي بي سي السيمفونية، لكن العازف الشاب يهودي منوهين (1916 - 1999) حصل هو الآخر على نسخة، وعزم على تقديمها قبلها في سان فرانسيسكو سنة 1937. في الآخر تدخلت السلطات النازية لمنع العرضين بذريعة حقوق النشر، وقدم عازف ألماني العمل للمرة الأولى في برلين بحضور هتلر وغوبلز. تلا ذلك العرض الأول في أمريكا (كارنيغي هول مع منوهين) وفي بريطانيا سنة 1938 بعزف جَلّي.
تعاونت جَلّي مع عدد من الموسيقيين المرموقين الذين أهدوها أعمالهم، فقدمت في باريس سنتي 1922 و 1923 إثنتين من سوناتات الكمان كتبها لها بيلا بارتوك بمصاحبته هو على البيانو. وحفّز عزفها موسيقى غجرية الموسيقي الفرنسي موريس رافيل على تأليف عمله المشهور "تسيغان" (الغجري) وهي رابسوديا للكمان والبيانو (قدمت عرضها الأول في 1924)، أما غوستاف هولست (1874 - 1934) فكتب للإختين كونشرتو كمان مزدوج بعد أن سمعهما تعزفان كونشرتو باخ المزدوج في ره الصغير.