اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > تعقيب على حوار: إجـابــة.. لـكـنـهـا اسـتـجـابـة

تعقيب على حوار: إجـابــة.. لـكـنـهـا اسـتـجـابـة

نشر في: 19 أغسطس, 2023: 11:11 م

د. نادية هناوي

من مهام النقد الأدبي الجمالية، الرصد والتشخيص لكل ما له علاقة بالنصوص وما حول النصوص، وهو ما يستوجب من الناقد تحري الدقة والموضوعية على المستويين الفني والتاريخي، كي لا ينفرط خيط الحقيقة من بين يديه فيختلط الحابل بالنابل.

وانطلاقا من هذه البديهية والتزاما بأهمية أن يكون العمل النقدي ذا وجه فني وقفا علمي، أقف وقفة مستفيضة عند إجابة واحدة وردت في الحوار المنشور على الصفحة الثقافية لجريدة المدى بالعدد 5489 يوم الثلاثاء 15 آب 2023 وأشخِّص ما جاء على لسان الكاتب جاسم عاصي من إجابة لا تخلو من استجابة ما.

وبدءا أقول إن ما سأتناوله من مغالطات ليس خاصا ولا ذاتيا، بل هو جزء من اعتلال عام يعانيه النقد الأدبي في العراق. والمتمثل بـ(حمى) البحث عن أجناس أدبية واجتراح الاصطلاحات فيها، والأسباب كثيرة وأهمها قلة ذات اليد في فهم قضية الأجناس الأدبية فهما نظريا كافيا مع تراخي الإمكانيات في تطبيق جهازها الاصطلاحي تطبيقا إجرائيا وافيا. الأمر الذي يجعل التسابق بين مدعي التجنيس مشرعا إلى درجة الهوس في البحث عن كلمة هنا وتعبير هناك يجعل أحدهم صاحب اختراع وبشتى الممارسات والخزعبلات المضحكة حد البكاء؛ فهذا يريد من تقانة فنية مثل المتوالية أو نوع مثل القصة القصيرة جدا أو الهايكو أن يكونا أجناسا أدبية، وذاك يستغل تفسيرات المبدعين للعملية السردية بأنها تمرين أو ورشة أو مشغل، فيشرئب عنقه وهو لم يبلغ الحلم في النقد بعد، ليدعي الابتكار بمقالة يتيمة واحدة يتشقلب في كتابتها ويتمحل متمخضا في النهاية عن مفردة هي من الاستهلاك ما لا يحتاج مزيدا من الوصف.

إن هذا الواقع النقدي المعلول نلمسه مختزلا للأسف في إجابة الأستاذ عاصي على سؤال محاوره: هل كانت كتابة القصة القصيرة بالنسبة لك تمرينا للدخول لعالم الرواية أم غير ذلك؟ فرد:(صحيح أني ابتدأت بكتابة الرواية متأخراً إذا ما قيست المسافة الزمنية منذ منتصف الستينيات حتى بداية السبعينيات. حيث أنجزت رواية (مستعمرة المياه)، وهي رواية تنتمي إلى (المتوالية السردية) التي ناقشتها الدكتورة (نادية هناوي) ومن ثم الباحث (ناجح المعموري) على الصفحة الثقافية لصحيفة المدى الغراء. وناقشوا بدايتها في المنجز العراقي، وأنا أقول إني ابتدأت باجتراح مصطلح المتوالية مبكراً ونشرت فصلين من الرواية في مجلة الأقلام.)

وفي هذه الإجابة مغالطات، أوقعت صاحبها في تناقضات ونسيانات، تعيد إلى الأذهان السجال المعرفي الذي خضته لأكثر من عامين حتى وضعت النقاط على الحروف، وقطعت الطريق على من أفتى بتجنيس تقانة المتوالية السردية. وفيما يأتي ايجاز لتلك التناقضات والنسيانات:

1) نسي الكاتب الكريم أن تاريخ نشر روايته ليس في السبعينيات، وإنما في التسعينيات، وهو القائل: (إن روايتي مستعمرة المياه نص ابتدأت كتابة فصوله منذ النصف الأول من تسعينيات القرن المنصرم ونشرت أوّل نص منها في مجلة الأقلام العدد2 1996 تحت عنوان اليقظة ثم تلاه نص الشروع في العدد المزدوج 1999) من مقاله (البدايات والمبررات) جريدة المدى بتاريخ 22/8/ 2017.

2) ذكر الكاتب الكريم أنني ناقشت روايته وحقيقة الأمر أنني لم أناقشها، وإنما أكدت أن القصاصين العراقيين أسبق من المصريين في التجريب الروائي على تقانة المتوالية السردية فقلت بالحرف الواحد:(ويعد الأستاذ الناقد والروائي جاسم عاصي أول من نشر في بداية التسعينيات تنظيرا لمفهوم صاغه من وحي المتوالية العددية او الحسابية وسماه المتوالية السردية) وفي مقال آخر قلت: (إن الأستاذ جاسم عاصي كان سبّاقا نظريا وهو يؤسس لمصطلح لمتوالية السردية بينما كان الأستاذ جهاد مجيد الأسبق عمليا في انتهاج هذا اللون من الكتابة السردية، لأنه نشر فصول(حكايات دومة الجندل) في مجلة الأقلام منذ العام 1988 وانتهى من نشرها عام 1992).

علما أن الكاتبين نشرا عمليهما عام 2004 وكتبا لهما مقدمة، قال فيها جاسم عاصي:(لم تستقر الفصول على مركز للحكي..إنها متوالية سردية لأبطال المستعمرة ما طال بهم العمر) وقال فيها جهاد مجيد(وهي وحدات سردية منفصلة متصلة تقبس من القصة القصيرة الكثافة في المشهد والجملة وقصر الحجم.. ومن الرواية الروابط الوثيقة بين كل الوحدات)

3) تباهى الكاتب عاصي (إني ابتدأت باجتراح مصطلح المتوالية وان اثنين ناقشوا بدايتها في المنجز العراقي) وفاته أن يضيف ما كان قد صرّح به سابقا في مقاله(البدايات والمبررات) من(أن الظرف الموضوعي كان فيه حذر شديد. لذا كنا نلوذ بهذا أو ذاك من أجل الصيانة ولعلّي عملت على هذه التجزئة من منطلق الانجاز وقوّل ما يمكن قوّله من خلال كل نص) وهذا يعني أن تجريبه بحت، ولم يكن له فيه قصد مسبق، وهذه هي الورطة النقدية التي كان حريا بالكاتب الكريم أن ينأى بنفسه عنها، وقد وجهت له في حينها هذا الانتقاد(وبدلا من أن يوجه الناقد الأستاذ جاسم عاصي نقده إلى العذاري الذي غمط حقه وحق القصاصين العراقيين قاطبة.. نجده يولي مسألة الشروع في الإجراء الاهتمام كله، ناسيا أهمية التأسيس للمنظور وهو ما كنت قد أثبت السبق فيه للأستاذ جاسم عاصي). من مقالي(التوريطات النقدية) جريدة المدى 12/ 9/ 2017:

4) هلل الكاتب الكريم بقول طالبة ماجستير(كذا) عن روايته(مستعمرة المياه) أنها متوالية قصصية، ومن شدة إعجابه أصدر مجموعة قصصية وشحها بالمتوالية هي(متوالية الناصري) وهنا أعيد ما كنت قد كررته في أكثر من مناسبة وهو أن من حق أي قاص أن يجرب في بناء نصه كي يلبي رغبته في التعبير والتصوير كأن يوشح نصه مثلا بأي عنوان يراه جذابا، لكن ليس من حقه أن يخوض في التجنيس ولا هو من مهام ناقد واحد بعينه يفتي كيفما يشاء، بعبارة اخرى أقول إن التجنيس لا يرتهن بتوشيحات عنوانية هنا وهناك، بل هو من مهام منظري السرد والعارفين بالنظرية السردية وتاريخها والهاضمين لجهازها الاصطلاحي. ولو كان التجنيس من مهام المبدعين أيا كانوا مبتدئين أو محترفين لكنا اليوم في دوامة أجناس لا حصر لها ولا عد، ولما كانت لتقعيدات أرسطو أهمية البتة. باختصار أقول إن التجنيس يبدأ إبداعيا وينتهي نقديا.

5) خلط الكاتب الكريم في قوله إن(روايته تنتمي إلى المتوالية السردية) بين مفردة الانتماء التي تعني التصنيف والتبويب وهما يصبان في باب (التجنيس) وبين وصفية مفردة السردية التي تعني العملية الفنية بكل ما يجري فيها من تجريب وتحوير وتطوير يصب في باب (البنية التركيبية للنص) فحدود التجنيس ليست كآفاق التجريب النصي التي هي مفتوحة بلا نهائية، أما التجنيس فآفاقه محددة فكريا ومحسوبة تاريخيا. وإذا كانت سمة التجريب انه اشتغال أو تمرين على التطوير والتجديد، فان سمة التجنيس هي التحديد القطعي والمعياري والإطاري. ومن ثم يكون القاص حرا في نصه لكنه مقيد في تجنيسه بما رسخه النقد الأدبي من مفاهيم وما تواضع عليه من نظريات. ولقد عُرف عن القاص الكبير محمد خضير مثلا أنه تجريبي، ولطالما كانت الواقعية هي وسيلته الموضوعية في هذا التجريب. وعلى الرغم مما أبدعه ونجح فيه في هذا المجال وآخرها كتابة السكيتشات، فانه لم يدَّعِ في هذا التجريب تجنيسا جديدا، بل كان قصده تجريبيا وهو صناعة(نصوص مضغوطة تحت ارتياب النظرة التاريخية المتعالية). (مقاله: مشتغِلون تحت النظر 15/ 1/ 2022)

والمفارقة الغريبة ان كلا من المتوالية والسكيتش تأتي من خلفية ما يحاوله الكتّاب الأمريكان خلال هذين العقدين من القرن الحالي في اعطاء القصة القصيرة خصوصية أمريكية تشابه خصوصية الأمريكي الذي يعيش على أرض لا هي بالأمريكية ولا الأوربية. فقالوا بحلقة القصة القصيرة والكتاب المفتوح ولعل سالنجر أولهم في البحث عن تلك الخصوصية في قصصه القصيرة فجرب فيها السكيتش كصورة وصفية على طريقة هوثورن في كتابة(حكايات تروى مرتين) 1842 مرتدا بالقصة إلى كهوف وسراديب الخرافات والترانيم والتعاويذ.

مؤدى القول إن القصة القصيرة جنس صالح لكل الأزمان والأمكنة، مما يجعل شدة قبضتها وضغطها الداخلي ليسا مجرد ثرثرة أو عمل كاريكاتوري، بل هي خصوصية قالبها الاجناسي العابر الذي يعطيها مطاطية ويمنحها سيولة وفي الآن نفسه يحتفظ لحدودها بالقطعية والثبات والاستمرارية. ومهما حاولنا إلقاء الرماد على نار هذه العابرية في القصة القصيرة، زاد لهب العبور جذوة فلا يقف أمامها نوع أو تقانة إلا وعبرت عليه، وهو ما يجعل للقصة القصيرة الأولوية والصدارة مستقبلا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram