ناجح المعموري

1-2

من أخطر نفي عاشه بنو البشر بتأثير الانظمة الدكتاتورية التي يتعامل فيها المنفي مع مكانه الجديد بوصفه نوعاً خلاصياً، وهو سعيد به، لأنه وفر له حياة اختلفت تماماً، عما كانت عليه حياته السابقة، الغارقة بالقهر والاضطهاد، والمراقبة، ومعاقبة لحظية.

لكن مثل هذا المنفى يجدد حالة الحلم، لأن الكائن البشري يظل دائماً يعيش وسط حياة حالمة، ويظل بانتظار خلاص من الدكتاتورية، والعودة الى وطنه الذي ظل محمولاً معه، ويستعيد مروياته، وهذا ما واجهه وتعايش معه كامل شياع، في رسائله الى ابنه الياس، وحلم العودة الى بغداد. حتى ان هذا الشاب تعرف على عديد من العواصم، التي عرف بها والده مثل صنعاء.

كامل شياع لم يعش قطيعة كاملة مع بغداد، لأنها كامنة في ذاكرته، ولا تبدو حياته كمجموعة ذاكرات مريحة، اذا فكت العلاقة مع بغداد. من هنا تشكلت يوميات المنفى موزعة بين النزل والبيت مع حضور لما عرفه مبكراً في مدينة كانت ملاحقة له عبر مؤسساتها وسلطتها القهرية. حتى ظن بأن بغداد قاسية للغاية. وظلت باقية على سلطة غريبة، معروفة لكنها غير مرئية، وقادته بعد عودته اليها الى قتل بشع، لأن الأسباب التي جعلت من مؤسسات السلطة طاردة له باقية، لكنها مختلفة الأسباب والدوافع وصاغت ثقافتها اليومية واختارت نوعاً من ثقافة دينية اكثر بشاعة وقسوة، لأن المقدس يوفر فضاءإخضاعياً وحامياً لمن يقوم بالفعل.

يتمتع الحلم بحضور ينعش الذاكرة والروح، ويتغذى على سرديات مستعادة، بمعنى هو مرتبط مع الوطن، لأنه غير مجتث تماماً، فجذوره نابتة هناك، وبانتظار العودة، على الرغم من أنه عاش وسط المنفى، وتكونت شخصيته بتنوعات ثقافية متنوعة، جعله متمتعاً بحضور مهم ولافت لانتباه الاصدقاء، حيث توفرت له لغات عديدة للتعايش مع الآخر. واكتساب تنوعات ثقافية وفنية ومعرفة. كل هذه الحيازات الثقافية، ساعدت على ترصين ذاكراته المطرودة وتعايشت مع حياته الأولى التي تحطم ما هو مهم منها، وارتضى بالمراسلات التدوينات الممتازة، واللائقة الواهبة له قوة للمقاومة والصبر. اشارت مذكرات واحاديث عدد كبير من الادباء المثقفين الذين اختاروا المنفى، ومن الحرب وتعرف كلهم على تنوعات كثيرة من الهويات المطرودة، وصاغ هذا النوع من الهويات صراعاً مع ثقافات، شكل جدلاً ومنح لكل شخص قوة مرصنة من ثقافة الآخر. لكن الاصول باقية ونابضة بحياة ملاحقة بالموت والدمار. والفضاء الواسع للملامح المتعايشة والمتوسلة لما تبقى في بلد / بلدان اضفت على المكان ملامح جديدة عبر الادب والفنون، ولم تقطع الجذور الأولى. ولكثرة الاعداد الهائلة من المنفيين وخصائصهم المتباينة، لكنهم يعيشون اللحظات القاسية ويكتبون الالم والوجع، حتى تأكد لهم بأن المنفى حقيقة حياتية ودنيوية، وعلى نحو لإبراء منه. وتاريخي بصورة لا تطاق. وانه من فعل البشر بحق سواهم، من البشر. كما قال ادوارد سعيد، الذي اكد على ملمح ثقافي بارز اشار فيه الى ان المنفى شأن الموت، انما من غير نعمة الموت الاخيرة. قد اقتلع ملايين البشر من منهل التراث والاسرة والجغرافيا. واشار سعيد هنا بينة ودائماً ما يتذكر القومية من حديثه عن المنفى، لأنه يتبدّى تدميرياً.

قال لولده بأن بغداد هي دار السلام، غير انها اليوم للأسف دار الحرب، كما تعلم الصور الاتية منها. تملأ الشاشات بمشاهد الخراب والرعب، ولا تدع مجالاً للشك بأن الحياة فيها واقفة على كف عفريت. كل يوم من ايامها نذير بالنهاية... وكل حدث فيها امتحان لطاقة التحمل القصوى، لعلك تستطيع ان تتخيل حالها من الصور والاخبار المفزعة المبثوثة عنها، الا ان بغداد التي الزمت نفسي بأن اكتب لك عنها هي عالم اخر. انها المكان الذي استرحت فيه من عناء السفر الطويل والغربة الشاقة، انها سنوات الطفولة والشباب التي رحت اقرأ بقاياها في الوجوه والاماكن والعادات. انها كيمياء من اواصر مصيرية ولا املك مفاتيح حلها / فيصل عبد الله / دفتر المنفى / ص106.

عاش دمارات بغداد من خلال الآخر، الذي تحمس لخرابها، وهنا لحظة صراعية اكثر قسوة عليه، وهو يعيش في المنفى مع الآخر، الذي دمر بغداد الحلم، ورسم صورتها لولده الياس. ودائماً ما تكون المدن اكواماً وانقاضاً، لا شيء فيها يدل على جماليات، انتجها الكائن وصاغ شعريات الفراغ، والحدائق والفنون العالية، بدقتها ودائماً ما يطرح كامل، آراء تستحضر القومية على الرغم من موقفه السياسي المعروف، لأن القومية والمنفى تضع الازمة الانسانية مكبرة وتقدم الخسارة هائلة، حتى تتضح المأساة الانسانية للفرد ضاغطة ومنتجة ادباً وفناً " انتجته الثقافة والعادات وهي بفعلها هذا انما تدرأ النفي وتقاتل للحيلولة دون ما يجره من خراب. والحق ان التفاعل بين القومية والمنفى، هو اشبه بديالكتيك العبد والسيد عند هيغل، حيث يعمل كل من هذين الضدين على املاء الآخر وتشكيله. فكل القوميات في مراحلها الأولى تتطور انطلاق من حالة الغربة ان لقاحات تلك الجماعات القومية الظافرة او المتحققة تبرر، على نحو استعادي ومستقبلي في آن معاً، ذلك التاريخ الذي يخاط معاً وهو صورة انتقالية في ضرب من الشكل السردي.... ...... وللقوميات اباء مؤسسين، وايضا تتميز بنصوص دينية وبلاغية ذات انتماء واضح. ولها معالم تاريخية وجغرافية، وتشكل هذه الروح الجمعية ما يدعوه بورديو ذلك الخليط المتمسك من الممارسات المرتبطة بالإقامة والسكن / ادوارد سعيد / ن. م / ص212.

الحروب المتسعة تنال الهويات القومية، وتسحقها، وتدمر امكانيات رضا المنفي بضرورة القبول بالسائد، والتحايل، على ما يوفره المكان لفرص الحوار، الذي لن يتجاهل الدمارات الظاهرة عن الحرب، لكنه قادر على ضبط الوصف والسرد، بشكل جيد ومعروف بأن ادوارد سعيد قارئ ممتاز للروايات عبر تواريخها وهي التي مكنته من فحص الاستشراق، والاستشهاد بسردياته التي كتب، لذا لم يستغرب القارئ لكتاب سعيد " تأملات حول المنفى " الاشارة لعديد من السرديات بالإمكان توظيفها حول تجربة المنفى، او فحصها كي تمنحه فرصاً، في التأويل وهي من التجارب الثقافية المهمة التي اسسها سعيد ورسخها ثقافياً. ولم يخف سعيد استفادته الواضحة والصريحة من لوكاش خصوصاً من كتابه " نظرية الرواية ".

ويذكر سعيد بحكاية " ايمي فوستر " لكونراد. وكان حضور جيمس حوبس، مهماً بوصفه شخصاً منفياً، طرح عدداً من الاسئلة عرفت بما هو جوهري، والتقط ادوارد سعيد التماعات هوغو المحتفظة بجمالها عن " سانت فكتور " وهو راهب سكسوني من القرن الثاني عشر.

" أنه لمصدر عظيم، اذا من المصادر الفضلية لدى العقل المتمرس. ان يتعلم البداية، شيئاً فشيئاً، تغيير نظرية الى الاشياء الظاهرية والعابرة، كما يتمكن بعدئذ من تركها وراءه الى الابد، فمن يجد وطنه عزيزاً، وأثيراً لا يزال غراً طرياً. اما الذي يجد وطنه في كل ارض فقد بلغ القوة، غير ان المرء لا يبلغ الكمال قبل ان يعتبر العالم اجمع ارضاً غريبة. فالنفس الغضة تركز حبّها على بقعة واحدة من العالم. والرجل القوي يشمل بحبه كل الاماكن، اما الرجل الكامل، فهو الذي يطفئ جذوة الحب لديه / ادوارد سعيد / تأملات حول المنفى / ن. م / 131ــ132.

استعار ادوارد سعيد، نموذجاً شعرياً لمحمود درويش، لتوظيفه وسيلة الى لم شتات الهوية، انطلاقاً من انكسارات المنفى وانقطاعاته في القصائد الباكرة لدى درويش. الذي يرقى عمله الكبير، لأن يكون ضرباً من الجهد الملحمي الرامي، الى تحويل اغاني الضباع الى دراما العودة المؤجلة، حتى اشعار اخر. منها هو في هذه الابيات التالية يرسم احساسه بالتشرد على هيئة قائمة بأشياء ناقصة لم يكتب لها التحقق:

ولكني انا المنفي خلف السدر والباب

خذيني تحت عينيك

خذيني اينما كنت

خذيني كيفما كنت

ارد الى لون الوجه والبدن

وضوء القلب والعين

وملح الخبز واللحن

وطعام الارض والوطن

خذيني تحت عينيك

خذيني لوحة لوزية في كوخ حسرات

خذيني أية من سفر مأساتي

خذيني لعبة، حجراً من البيت

ليذكر جدلنا الاتي

مساربة الى البيت

تكمن لوعة النفي، في ضياع الصلة، مع صلابة الارض وما تنتجه من أراء واشباع: من هنا تجده ان العودة الى الديار لا يمكن ان تكون موضوع شك / ن. م / ص124.