ستار كاووش
بدا الطريق الى متحف الفنان كونستانتين مونييه (١٨٣١-١٩٠٥) أطول مما توقعت، لكني لم أشغل نفسي بذلك، وأكملتُ خطواتي في شارع لويزا الذي ينحدر نحو جنوب مدينة بروكسل تحاذيه الأشجار من الجانبين،
وشرعتُ بمتابعة التفاصيل الممتدة على طول الشارع، حيث حركة الناس ورائحة القهوة المنبعثة من بعض المقاهي، وتجمعات بعض النساء وأحاديثهن العابرة وهن منشغلات بالتدخين قرب واجهات بعض المطاعم. قبل نهاية الشارع بقليل ظهر لي تمثال برونزي كبير لرجل يمتطي حصان، وهو للفنان مونييه ذاته، والذي أنا بصدد زيارة متحفه، مصادفة جميلة وبداية جيدة للدخول في عوالم هذا الفنان. عطفتُ نحو شارع أبداي، حيث المتحف الذي كان عبارة من مشغل وبيت الفنان مونييه. بيت مبني بالحجر الأحمر، مكون من ثلاثة طوابق إضافة الى طابق أرضي بدا نصفه تحت مستوى الأرض. تبرز في منتصف البيت شرفة زجاجية، وتتوزع مجموعة من النوافذ البيض، فيما ثُبِّتَتْ منحوتة لمونييه على الواجهة. صعدت درجات السلم الحجري، ودخلتُ للتعرف على عوالم هذا الفنان الذي أجادَ الرسم والنحت بطريقة فريدة ومتوازية. في مدخل الصالة الأولى كان هناك رجل في حوالي الخمسين من عمرة، بملابسه الأنيقة وشعره المصفف بعناية، أخذ مكانه خلف طاولة مليئة بالكتب والأوراق. حييته وطلبت منه بطاقة للدخول، ودارَ حديث قصير بيننا حيث قال بلغة هولندية تغلب عليها لكنة الجنوب أو الفلامس (لا تنسى الذهاب الى الخلف تماماً، حتى نهاية الرواق، حيث مشغل الفنان المليء بمنحوتات كبيرة) ثم ناولني البطاقة مع بروشور صغير متمنياً لي مشاهدة ممتعة.
رغمَ إن المكان قد بدا صغيراً من الخارج، لكن ما أن خطوتُ بجولتي في الداخل حتى ظهرت الصالات والقاعات والممرات الطويلة التي تفضي لأعمال لا حصر لها. وسط هذه الأعمال عرفت لماذا نالَ هذا الفنان مكانة رفيعة في تاريخ الفن، ولماذا اعتبره رودان أحد أعظم فناني القرن التاسع عشر. هنا في هذا المكان فهمتُ لماذا أُفتُتِنَ فنسنت فان خوخ بأعمال مونييه التي تمجد الانسان. وسط هذه اللوحات والمنحوتات تحسستُ كيف فطنَ هذا الفنان للحياة الصناعية والاجتماعية البلجيكية في نهاية القرن التاسع عشر، هنا وسط لوحاته ومنحوتاته الضخمة، رأيت كيف كرس هذا الفنان حياته للفن، وعرفتُ السبب الذي جعلَ العشرات من أعماله البرونزية تتوزع في بروكسل وأنتفيربن ومدن بلجيكية أخرى. هذا الفنان الذي عاش ليرسم الناس، فعاشَ فنه فيما بعد بين الناس.
درسَ مونييه الرسم في أكاديمية بروكسل وهو بعمر الخامسة عشرة، وشق طريقه بسرعة في عالم الفن، حيث ركز في شبابه على الرسم، لينتقل في السنوات الثلاثين الأخيرة من حياته الى النحت الذي برعَ فيه وصار له تأثير بالغ ، حيث أظهر من خلال أعماله تعاطفه مع الاشتراكيين واقترب من عمال المصانع الذين أنجزَ لهم تماثيل تعتبر ذروة ما وصل له النحت الواقعي. وقد زار هذا الفنان الكثير من المناطق الصناعية في بلجيكا كي يستوحي منها موضوعاته، حيث نرى كيف صور في أعماله كفاح العمال وإجتهادهم رغم العمل الشاق الذي يقومون به، وقد منحهم نظرات تحمل الكثير من الفخر، وايماءات تدل علـى الكرامة والاعتداد بالنفس.
بعد وفاته كلفت الدولة المعماري ماريو كناو بجمع خمسة من أعمال مونييه وتركيبها مع بعضها لتكوين نصباً تذكارياً للعمال، وقد صار هذا العمل أحد العلامات التي تشير الى أهمية مونييه وتضعه في مكانه اللائق في تاريخ الفن، وإعتبار أعماله مثل قصائد تُمجد العمال، وبمثابة تلويحة تقدير لهم. ليحصل هو في النهاية على تقدير الجميع ومحبتهم، واحتل مكانة عالية كفنان بلجيكي عظيم عاش بين الناس وانتمى لمعاناتهم وثَمَّنَ جهودهم. تم بناء هذا البيت والمرسم سنة ١٩٠٠ من قبل المعماري أرنست ديلونيه، حيث عاش الفنان في مقدمة البيت، فيما احتل مشغلة الواسع مؤخرة البيت ويفصل بينهما رواق طويل. وقد قامت الدولة بشراء البيت سنة ١٩٣٦ وحولته الى متحف، ليصبح جزءً من المتاحف الملكية البلجيكية.
بعد أن قضيتُ ساعتين وسط الأعمال التي تمجد الانسان والحياة والعمل، أعمال تغرف من الواقع لتجعل البرونز له قيمة والكانفاس مليئاً بالحياة، خرجت مودعاً الرجل اللطيف الذي إستقبلني في البداية، حيث نصحني قبل خروجي قائلاً (عليك أن تزور متحف الفنان فيرتز، فهو مذهل وربما حتى أجمل من هذا المتحف) فقلتُ له مازحاً (عليك ان تقوم بالدعاية لهذا المتحف الذي تعمل فيه وليس لمتحف آخر) فأجابني وهو يعدل جلسته ضاحكاً (كلها ثقافة بلجيكية ياعزيزي) فودعته وأنا أفكر بلطفهِ، وحرصهِ على ثقافة وإبداع بلده.