ناجح المعموري

2-2

التقطت حساسية ادوارد سعيد سردية مهمة عن اشكالات النفي، وصاغها كونراد في احدى قصصه المتمركزة على شخصية " يانكوغورال " الفلاح الاوربي الشرقي، الذي تغرق سفينته في طريقها الى امريكا فتقذفه الامواج الى الساحل البريطاني:

" أنه من العسير حقاً على المرء ان يجد نفسه ضائعاً وغريباً في ركن مجهول من اركان الارض، بلا حول ولا قوة، ومن اصل غامض، دون ان يجد من يفهمه، غير ان احداً من المغامرين الذين حطمت سفنهم وقذفت بهم الامواج في جميع ارجاء العالم النائية، لم يكتب له ان يعاني كما يبدو لي، ذلك المصير المأساوي الذي عاناه الرجل الذي احكي عنه، ذلك المغامر البريء الذي لقطته الامواج / ادوارد سعيد / ن. م / ص125.

توصيف كونراد ذكي للغاية، صاغ شعرياً مصير المنفي والذي تخيله ضائعاً في جغرافيا غريبة، لا يملك قوة حتى ولو بسيطة حتى يدب نحو امل غامض، وعاود الحلم مرة اخرى، لعله يجد مماثلاً له، شخصاً مغامراً تحطمت آلياته التي اعتمد عليها، وظل يعيش حالة مأساوية. وتخيلات كونراد التقطها ادوارد سعيد الذي وظف كثيراً من السرديات والنصوص الشعرية حول المنفي، لأنه تعرف على كثير من المنفيين الفلسطينيين وعرف خصائصهم وهي الابرز وضوحاً انها السقطات والكدمات. الشعر اكثر قدرة على التعبير، مع صعوبة الكتابة، ويختصر موقف الانا المنفي، المطرود ووجدت من خلال متابعة ادوارد سعيد للشعراء الفلسطينيين حساسية عالية، والحوار مع الآخر صعب وفيه تعقيدات، لأن الآخر يظن بانه المتحدث عبري، وهذه اشكالية ممزقة، تنتهي اخيراً بنهاية تراجيدية، مثل النهاية الخاصة بالشاعر راشد حسين الذي انتهت حياته بسردية ذات تنوع غير معروف كثيراً وجعلته جوال المنافي، التي قادته الى مأساة عبرت عن شتات الفلسطيني، وتدمير الحلم، من قبل قوى ثقافية وعلاقات اجتماعية، وسياسية، وعلى الرغم من هذه السردية المثيرة لن يغيب الحلم الفلسطيني عن التواجد الاجتماعي والسياسي، وهو متحقق حتماً. ولكن الاحساس بالغربة والطرد والنفي عاشت جيداً في الادب والفنون، لانهما من وسائل التعبير القوية، التي تنجح في التعبير عن نوع وحجم المأساة وهي ذات تأثير اقوى من السلاح.

بالإمكان الاستفادة من اختبار ادوارد سعيد لنص محمود درويش الشعري والتعامل معه بوصفه آلية متميزة لعكس صورة المثقف المنفي، وما عرفه في الامكنة وتعلم منها ثقافات متعددة ومتنوعة.

ورشح نص محمود درويش رمزيات عن الهوية والمكان الاصل ولما تعرف عليه من وضوحات الثقافة المجتمعية وتواريخها. وهذه هي اهم اشكاليات شخصية درويش وسمات هويته التي منحته حضوراً عالمياً بارزاً.

تضمن نص درويش مرويات ايقونية، هي خلاصة كالجواهر، ممثلة للهوية. واذا اردنا دراسة شخصية محمود درويش من خلال شعره، علينا الانتباه لسرديات هويته، لأن الهوية لن تكون الا من خلال التاريخ / والسرد وهذا ما ركز عليه هومي بابا، السرد يضيء لنا التاريخ. والايقونة الاستهلالية في هذا النص الدنيوي كما اطلق سعيد، كافية الايقونة بالتعريف بجذور السردية والحديث عن الانا / الذات، ومع كل ما هو معروف علنا، لكنه يكرس مقولة مثيرة للدهشة ومعرفة بما امتلك من طاقة:

لكني انا المنفي خلف السور والباب.

الكشوف قاسية لما يعنيه محمود درويش، من تنوعات المأساة المستولدة عن الطرد والغياب عن جذوره، فهو سجين، هذا ما تضمنه استهلال النص لكني انا المنفي خلف السور والباب.

الاسوار كثيرة والابواب هائلة، هي فيضان بالعدد ومخيفة بقسوتها، اذا تعاملنا مع محمود درويش، بوصفه منفياً، طاف جغرافيات كثيرة سنجده صالحاً للفحص والقراءة، ويبدو صامتاً وسط المنافي، ومتكلماً بالشعر عن الاسى والوجع، فالشعر هو وسيلته الوحيدة لقول ما عرفه في المنافي وخاف منه وازداد فزعه منه، لكن ما تعرف عليه من ثقافات منحته صفته الثقافية والاجتماعية والسياسية. وتحولت شخصيته الى حضور كائن بتلاوين الثقافة والمعرفة والفن والفلسفة. وهنا تبدو الاضاءة بدور المنفى المانح والمغذي، بحيث صعدت عناصره، التي لم تكن من قبل وتبلور جديداً وجميلاً.

التكرار عنصر بنائي بارز في تجربة درويش. وهذا النص كاف لاعتباره انموذجاً للتكرار وبهذا وظف التجارب البدئية للشعر، الذي عرفته حضارة الشرق وفلسطين جزء من الجغرافية العارفة بذلك.

الهوية ما يتنفسه هذا النص القصير والمركز، وهو الحياة اللاهية بالحب والجمال والفنون وكأن درويلين زرع في نصه ارواحاً مغذية عديدة، ولعل المعشوقة هي الاثارة والدهشة وما يحلم به لذا وجه خاطبه اليها بنوع من التوسل

خذيني تحت عينيك

تكرار الدعوة لتأخذه تحت عينيها، تتسع دلالتها، فهو لا يريد المعشوقة الصغرى بل الكبرى، التي تعني لديه فلسطين، لتنقذه من الغربة والشتات والتوزيع حتى تعطيه لون وجهه وما يحتاجه البدن.

الهوية لها حضور قوي وجمالي، مغذً لما تحتاجه الروح، فالهوية هي زحمة ثقافات، تهيكلت من خلال الآخر. والهوية هي ذاكرة، سرديات عظمى، لن يكون الحضور القوي للمكان بمعزل عنها. وعلى الرغم من ان محمود درويش لم يكن مثلما تضمن استهلاله، بل حاز نوعاً فريداً ومتميزاً، من الحرية لأسباب لها علاقة بمنجزه الشعري، اذن هو موجود خارج الامكنة وداخل الازمنة. وهو يعترف بماضيه وما منحه الماضي من ثقافات في امكنة عديدة لأن شاعراً مثل درويش لا يستطيع تكوين خلاصة نهائية في مكان واحد. فهو مخلوق الاماكن ومغذي جماليات ما راه وحاز منه تصوراته وادهشنا بما اعطاه من تخيلات المزودة له بضوء القلب والعين التي اخذته والتقطته وفاض عليها بالتكرر وكأنه يوميء لها مجازاً بالأم، التي عافها ولم ينسها للابد، فهي حاضرة بالملح والخبز والاغاني والرقصات التي هي طعام الارض والوطن. لم يكن مثيراً للاستغراب الطقسية الطافحة في نص درويش وذلك للغنائية المعروفة في تجربته وهذا الملمح يضفي شيئاً من التراجيديا على موضوعة المنفى

خذيني لوحة لوزية في كوخ حسرات

خذيني لعبة، حجراً من البيت

ليذكر جيلنا الاتي

مساربه الى البيت

تكررت مفردة خذيني في النص، سبع مرات وهذا العدد له اقتران بكثير من الطقوس الزراعية والدينية ولهما علاقة واضحة مع الارض والوطن. الذي اختتم المقطع الاخير من النص " مساربه الى البيت " ولهذا التواجد القصدي دلالة واضحة جداً على الهوية وما يفضي اليه البيت. لذا نستطيع التأكيد على ان نص محمود درويش، الذي اختاره ادوارد سعيد، نابض بدلالة المكان البدئي، المغذي بالعقائد والطقوس، وكثير من الاساطير. وما قاله سعيد يدل بوضوح على ما يعنيه المكان / الوطن " في المنفى يزداد الاحساس بضياع الهوية فــ " ان الهوية من نحن؟ من اين جئنا؟ ما نحن؟ شيء صعب المنال في المنفى " ليغدو كل احساس بالانتماء منفياً مع مرور الوقت، لأن النفس اذا داومت على العذاب استعذبته والفته. فيشك ادوارد سعيد في قدرة العودة الى اصوله يوماً ما في اطفاء احساس المنفى المتجذر فيه، اذ يقول " وبحق ان فكرة المنفى والاحساس به اصبحا شيئيين قويين، بالنسبة لي مما يجعلني اشك انني سأكون قادراً، على تهدئه هذا الاحساس بعودة من ذلك القبيل " تحرير واشراف / د. اسماعيل مهنانة / ادوارد سعيد / الهجنة، السرد، الفضاء الامبراطوري / ت: مجموعة من الاكاديميين العرب / ابن النديم دار الروافد الثقافية / 2013/ص14.

ربما سيثار سؤال عن وجود محمود درويش، ضمن مشروع ثقافي مكرس، عن المفكر كامل شياع. لأني اعتمدت على كتاب ادوارد سعيد " تأملات حول المنفى " ت: ثائر ديب ووظفت كثيراً من آراء سعيد من هذا المصدر المهم والمثير، وايضا من كتبه الاخرى. واعتنى سعيد بإشارة واضحة لمحمود درويش، ونصه الشعري الذي تعاملت معه بوصفه من الشعر الموظف عن المنفى. لكني سأشير الا اني في مشروعي، عن كامل سأركز كثيراً عن تجربة شياع وتوظيف الشعر الذي اغتنى به " دفتر المنفى / بين النزل والبيت ".