حيدر المحسن
قبل أن أشرع في كتابة هذا المقال، فكّرتُ في أنه عليّ مراجعة جميع أعمال السيّاب وسعدي يوسف وحسين مردان، لا أتذكّر شيئا لفؤاد التكرلي عن الحرّ في بلادي، فهو صار يؤمن في الأخير بمبدإ اخترعه وسمّاهُ "صهر اللغة"، أي أنها ليست سوى أداة للوصل بينه وبين القارئ، مثل جسر من الحديد يشدّ بين الاثنين، كي تصل الأفكار والتصوّرات كاملة، وكذلك الانفعال،
لكن مائدة الأدب تتسع لأكثر من ذلك، وهو الشِّعر في النّثر والنّثر في الشِّعر، فإذا انصهرت الحروف ضاع هذا العصير، أو أنّه صار قليلا فهو غير مؤثّر. كما أنّي استبعدتُ البريكان وحسين عبد اللطيف وطالب عبد العزيز، لأن هؤلاء قريبون منّي طوال الوقت، وليس لديهم عن الصّيفَ في العراق إشارات تقودنا إليها من بعيد.
واحسرتاه، متى أنام
فأحسّ أنّ على الوساده
من ليلكَ الصّيفيّ طلّا فيه ذكركَ يا عراق؟
القصيدة من ديوان "أنشودة المطر"، ومن معاني (الطَلّ) النّدى والمطر الخفيف، وهذا الوصف هو الأحسن للحرّ في بلدي، عندما تسيل الأرض السّاخنة مثل أنهار من العرق يتبخّر على الدوام، ومن عبق أجساد النّاس تتكوّن غيوم صيفيّة ينهلّ منها رّذاذ غير مرئيّ على الوجوه، وتبتلّ به الأجساد. في قصيدة (أغنية في شهر آب) نقرأ للسيّاب:
"والليلُ يطولُ مع السّمر | الليلُ كتنّورٍ من أشباح البشر | خبزٌ يتنشّقُ نيرانه".
السُمرة اللّذيذة في وجوه العراقيّين مصدرها نار ونور يذرّهما تنّور مسجور على الدّوام، فهي مشويّة على مهل، وحين يجوع المرء ويرى قربه سِحنة قمحيّة أو حنطيّة اللون من أهلنا، فكأنّه شمّ رائحة الخُبز، أو تراءت له صورة الرغيف ساخنا...
كنتُ أودّ المضيّ في الحديث عن شاعري، لكنّي انتقل بكم إلى وليام فولكنر. يقول: "عندما بدأتُ بكتابة رواية سارتوريوس اكتشفتُ أنّ الطّابع البريدي الصّغير الذي يمثّل تربة وطني يستحقّ الكتابة عنه وإنّني لن أعيش طويلا لكي أفيَهُ حقّه من المعالجة الكاملة. وبإجراء مفاضلة بين ما هو حقيقيّ مع ما هو مشكوك في صحّة نسبته، ستكون لي الحريّة الكاملة في استعمال الموهبة التي أمتلكها إلى أقصى حدودها".
الطّابع البريديّ هذا يمكن أن يظهر في صور عديدة، بشرط أن تكون حقيقيّة، أي صادقة وصافية. كان الشّاعر حسين مردان ينثر طوابعه البريديّة بين صفحات كتابه "الأزهار تورق داخل الصّاعقة"، واصفا الغربة عن وطنه بأسلوب فيه عصير الشّعر والنّثر: "أنا أعرفُ أنّك مستقرّ كشجرة النّبق في ساحة التّحرير. فأنت إذن سعيد". صارت الشّجرة والسّاحة طابعين بريديّين، لأنّهما حقيقيّان وليس هناك شكّ في نَسَبَهِما، وكذلك "منائر كربلاء التي تنتصب في صدري وكلّ ما في نخيل البصرة من خوص يرفّ على أهدابي فيا لشوقي إلى حفنة من ريح العراق... وعندما أعود إلى بغداد متأبّطا جوعي، سأقبّل كلّ عمود في شارع الرّشيد". حتى أسماك بلده غدت طابعا بريديّا: "... ولكنّي لا أستطيع أن أرى الحوضَ فارغا من الشّبّوط الحيّ"، وكذلك صحن الطّعام: "أنت أحلى من طبق القيمة، وتحت إصبعك ألف لفّة من الذّهب".
النصّ الأكثر ازدحاما بالطوابع هو قصيدة لبورخيس: "ما عساها أن تكون بوينس آيرس؟ ميدان مايو الذي عاد إليه الرجال المتعبون السّعداء بعد أن حاربوا في القارّة... أيكة عظيمة بشارع "خونين" تفيء علينا دون أن تدري بالظلّ وبالنّسيم"، ويمضي الشّاعر في تعداد شوارع وأحياء المدينة، فكلّما تراكمت الطّوابع البريديّة ازداد الكاتب أصالة، وبالتالي إبداعا وتألّقا.
بالنسبة إليّ، فإن الحرّ هو أجمل طابع أقتنيه عن بلدي وأحمله معي في كلّ مكان، ونشرتُ في العام الماضي مقالا في صحيفة القدس العربي عنوانه "بغداد مبنيّة من تمر"، قلتُ فيه إن الحرّ الذي نعيشه في هذه الأيّام باذخٌ، وليس شديدا ويوجع القلب، وأُضيف هنا إنني إذا افتقدته ذات يوم فسوف أصيح مع حسين مردان: "آه لِيَأْتِ كلّ الهواء الحارّ الذي يملأ العراق الآن ويدخلْ في صدري!".