طالب عبد العزيز
بين حين وآخر تعاودني رغبة في تصفح كتب تراثنا العربي، لغةً وأدباً. هناك جمال وسحر في الاثر العظيم هذا، لم نحطه عناية، ولم نوفّه حقه، والله، ومؤسف أنَّ القراءات الجادَّة له لا تشكل السواد الاعظم مما نكتب ونقرأ، وأسوأ ما في الامر هي الدراسات التقليدية والمحايدة، التي وقفت عليه، محددَّةً بالتشريع، ونظرت اليه بوصفه مقدّساً ومحرَّماً، ولا يصح التأويل فيه، والذهاب معه الى ما وراء النص، مع أنه يحتمل ذلك كله.
وأجدُ أنَّ المرأةَ سيدةً وجاريةً وحبيبةً وعاشقةً وخليلةً.. وبما كانت عليه من حضور ومشاركة وقوة وتأثير لم تحفظ منه إلا القليل، بسبب تعرضها لتعسف الرجل(المشرِّع) ولم يبق شيءٌ لها مما حازته من الجاهلية الى اليوم، إلا ما تتعرض له من ظلم وطرد وتصوير مشوّه عن دورها الحقيقي، في تنكّر لأهميتها، ومشيئتها الانسانية، وفي إذلال واضح حين أريد لها أنْ تكون وعاءً جنسياً، وماكنة تفريخ، أو قطعة أثاث في أحسن الاحوال.
في مؤتمر ثقافي، حدث أن كانت تجلس الى جواري سيدة مثقفة ومحترمة، من الأديبات، تجاوزت الخمسين من العمر، لكنْ، حين أراد المصوّر أنْ يلتقط لنا صورة سألته أنْ ينتظر، ريثما تصلحُ شأن جلستها، فأرسلت شالها البصلي على صدرها، في محاولة لقمع نفوره وبروزه، وهكذا، كانت تريد أن تبدو في الصورة، على غير حقيقة جسدها، في قمع ومقاومة ضارية، لما يدور في الاخيلة الذكورية، تحمل بطياتها عفناً اجتماعياً وسلوكياً، لم تشأ القفز عليه، فاستسلمت له. أعرفُ وأحترم جداً حياة السيدة هذه، فهي تحضر مجالس الادباء، وتخوض في حديث الادب والفن والفكر، وتدخن السيجار، وتكتفي من الانبذة بالقليل ربما، ومازالت تحتفظ بقدر كبير من الجمال.
في المدونات العربية وكتب الاخبار بخاصة نجد أنَّ المرأة حرةً أو جاريةً إنما تحوزُ أهميتها ومكانتها وطلب الزواج بها إذا عُرفت بجمالها، وحسن أدبها، وحفظها للشعر، وروايته، ومعرفتها بفنون الموسيقى والغناء، بل وتجاذبها الرجال بطلب القرب منها، وإن لم تحز ديناً ونأت عن مجالسة الرجال، وبذلك لم نسمع جملةً مثل (ربّة بيت)أو (سيدة منزل) التي تعني التضييق والنبذ المجتمعي بوضوح تام.
حين أراد أحد ابنائي الزواج، بعد تخرجه في الجامعة، سمعته يقول لأمه: اخطبي لي زوجةً! وحين سألتُه: لماذا لم تخترْ طالبةً ممن كنَّ معك؟ قال إنه يريد زوجةً لم تصادق رجلاً من قبل! قلتُ: تريدها بلا تجربة ولا ماض يعني؟ فقال وأفضلها بلا تلفون ايضاً.
لم يكن ابني الوحيد في النظرة هذه، فكذلك فعل شقيقه، وابن عمّه، وصديقه وغيرهم كثير، وحجّتهم في ذلك أنهم كيف سيكون موقف أحدهم لو أنه تزوج امرأة ما، وصادف من كان يعرفها في السوق؟ أو كان حبيبَها، أو تحدث أو سافر معها ذات يوم؟ هذه النظرة الغريبة تعيدنا لقراءة ما في الاثر من قصص، ففي (اخبار النساء) كتاب ابن القيم الجوزية يُروى عن العباس بن الاحنف انه قال: بينما انا اطوف إذْ بثلاث جوار، أتراب، فلما أبصرنني قلّن: هذا العباس. ودنت الي احداهن، فقالت: يا عباس، أنت القائل؟:
ماذا لقيتُ من الهوى وعذابه طلعتْ عليَّ بليّةٌ من بابه.
قلت: نعم قالت كذبتَ والله، يا ابن الفاعلة، لو كنتَ كذلك كنتَ كأنا. ثم كشفتْ عن أشاجع* معرّاة من اللحم، فانشات تقول:
ولمّا شكوتُ الحبَّ قالت: كذبتني فمالي أرى الاعضاءَ منكَ كواسيا
فلا حبُّ حتى يلزقَ الجلدُ بالحشا وتخرسُ، حتى لا تُجيبَ مناديا
وقال آخر: سمعتْ امراةٌ في الطواف تقول: اللّهم مالك يوم القضا، وخالق الارض والسما، ارحم اهلَ الهوى، وانقذهم من عظيم البلا، فانّك تسمعُ النجوى، قريب لمن دعا. فسمعها احدُهم فقال: أيقال هذا في الطواف؟ فقالت اليك عني، لا يرهقك الحب. فقلت وما الحبُّ قالت جلَّ ان يخفى، ودقَّ على ان يُرى، له كمون ككمون النار في الحجر، إنْ قدحته أورى، وانْ تركته أوارى. قال: فتبعتها حتى اعرف منزلها، فلما كان من غد، جاء مطر شديد، فمررت ببابها، وهي قاعدة، مع اتراب لها، وهنَّ يقلّن لها: أضرَّ بنا المطرُ، ولولا ذاك لخرجنا الى الطواف. فانشات تقول:
قالوا: أضر بنا السحابُ بقطرةٍ لمَا رأوها بعبّرتي تحكي
لا تعجبوا مما ترون، فانَّما تلك السماءُ لرحمتي تبكي
*أشاجع: اصول الاصابع