ستار كاووش
في كل مدينة جميلة ومزدحة أمر بها، أتمعن كثيراً بوجوه الناس وملامحهم، ثم أمضي بجولات في بعض المتاحف، وأزور مجموعة من المقاهي. بعدها تأتي لحظة أرغب فيها بسماع أغنية تنبعثُ من عاطفة المدينة وتمنحها روحها، أغنية تنبثق من جوهر المكان الذي أقضي فيه إجازتي.
وها أنا قد مرَّ على زيارتي لمدينة بروكسل عدة أيام، وتَوقي يكبر لسماع أغنية وأن كانت عابرة، أو حتى الاستمتاع بترنيمة يرددها العشاق في إحدى مقاهي المدينة. أغنية بسيطة تكفي لذلك، وأنا سأُضفي عليها شيئاً من نعومة اللحظة وأُلبِسُها ثوباً من الألفة.
لم أنتظر حدوث ذلك تلقائياً، فقد يتأخر الأمر أو لا يحدث نهائياً، لذا مضيتُ متجولاً بين شوراع المدينة، عسى أن أعثر على حانة أو مقهى تنبعث منها أنغام الموسيقى حتى وإن إختلطت بهمسات العشاق وصياح الزبائن. وأنا على هذا الحال، أقطع شوارع المدينة طولاً وعرضاً، إستوقفني بمصادفة غريبة، أشهر مغني بلجيكي في كل العصور، إنه جاك بريل، وأقصد تمثاله الجميل، منتصباً في ساحة صغيرة ومُحاطاً بمجموعة من المقاهي. بدا بريل رافعاً ذراعيه وفاتحاً فمه العريض المميز وكإنه بصدد الترحيب بي، أو هو على وشك البدء بترديد إحدى أغانية الرائعة، (ها قد أتاني طيف من الموسيقى، من حيث لا أتوقع) هكذا رددتُ مع نفسي واقتربت متأملاً المغني الذي كان واثقاً من إن أغانيه ستبقى الى الأبد. درتُ حول التمثال وتحسسته، ثم أمسكت يد المغني بأصابعي وكإني أستعيد مجد أغاني الشانسون العظيمة. تأملت ملامح بريل برهة فيما الناس في المقاهي المحيطة بنا منشغلين بالشرب والأكل وانتظار الطلبات، حتى السائحون الذين ملأوا المكان، كانوا يمرون من جانبي بلا مبالاة ومن غير التمعن بهذا المغني الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وهو يردد روائعه التي ظلت خالدة. لكني مع ذلك أحسستُ بأن بريل كان غير عابئاً بالناس المنشغلين حوله، ومازال ينشد أغانية بشكل خفي، وقد إنتصبت بمواجهته إحدى المؤسسات التي تعتني بتراثه الغنائي، والتي وضعتْ صورته المرسومة بطريقة السلويت على الواجهة. مرَّ بعض الوقت وأنا أتطلع للتمثال، ثم إخترتُ أريكة دائرية الشكل محاذية له وجلستُ هناك، وأنا أردد أغنيته الشهيرة (أمستردام) التي غناها بالفرنسية، فيما أنا ارددها الآن معه بالهولندية، وهكذا عشت لحظة من الموسيقى التي كنت بحاجة لها، ومع من؟ مع جاك بريل الذي لا يمكن لأي مُحب للموسيقى أن لا يقع في غرامه حال سماع صوته العاطفي الواثق المعبر.
هذا التمثال الجميل أنجزه النحات البلجيكي توم فرانتزين سنة 2017، والذي إشتهر بإنجاز تماثيل توضع في الساحات والشوارع وتتميز بروح الدعابة، كتمثاله للرسام هيرجيه وآخر للرسام بيتر برويغل وغيرها الكثير. وهو جعل بريل هنا فاتحاً ذراعيه وكإنه يقف في مسرح ساينت ميشيل في بروكسل أو مسرح كاريه في أمستردام، يقف على منصة دائرية صغيرة وأمامه المايكرفون، وأحاطت به على أرضية المنصة مفردات أُستنبطت من أغانيه الشهيرة، مثل فردتي حذاء نسائي، بعض الزهور، مجموعة من قطع الحلوى وجهاز غرامفون، وتوزعت حوله أيضاً مجموعة من اسطواناته الشهيرة مثل: لا تتركني وحدي، الحلوى، حين يكون لدينا الحب فقط، هؤلاء الناس، الفالس ألف مرة، كذلك اسطوانة أمستردام التي اخذت إسمها من واحدة من أعظم أغانيه التي تغنى فيها بمدينة أمستردام وبحارتها الذين يعودون في إجازاتهم ليتسكعون مساءً بمتعة كبيرة على حافة الميناء وبين المواخير وأماكن الليل. يقف بريل ببدلته الأنيقة، يشدو مرحباً بكل من يحب الموسيقى والنساء والسهرات التي لا تتوقف، ويفتح قلبه لكل عشاق أغاني الشانسون التي لا يدانيه فيها سوى العظيم أزنافور. رددتُ معه أغنية أمستردام التي صارت ايقونة فى بلجيكا وهولندا وفرنسا، وقد غناها بعده الكثير من المشاهير وبلغات مختلفة، مثل سكوت وولكر، جون دينفر وديفيد بَوِّي، كذلك ليزبيت لِيست ويرون ويليمز وغيرهم الكثيرون.
تركتُ جاك بريل فاتحاً ذراعيه وسط المدينة وعدتُ أدراجي الى مكان سكني وأنا أردد شيئاً من كلمات الأغنية (هاهم البحارة يرقصون ويغنون في ميناء أمستردام. إلتفاتاتهم جادة ونظراتهم فخورة وهم يغنون ويرقصون قرب الميناء. لكن مع حلول الليل، تطاردهم الأحلام بعد أن يغيب القمر، وينامون دون إكتراثٍ على المصاطب الكئيبة في ميناء أمستردام…). وصلتُ الى مكاني، وبعد أن فتحت الباب حملتُ سريعاً فنجان قهوة وتوجهتُ نحو الحديقة الخلفية، وجلستُ هناك أفكر بالجمال الذي لم ولن يموت، أفكر بصانعي هذه المعجزات الفنية التي لا يؤثر عليها تراكم السنوات. مددتُ يدي وأخرجتُ تلفوني من جيبي وبحثتُ فيه عن أغنية أمستردام التي علا ايقاعها بسرعة وسط الحديقة البلجيكية. مرَّت الدقائق، نَفَدَتْ القهوة وإنتهت الأغنية، لكن إمتناني لجاك بريل لا يمكن ينتهي أبداً.