TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > لا شيء يتدفق في العراق

لا شيء يتدفق في العراق

نشر في: 28 أغسطس, 2023: 08:42 م

ستيفان لوكاس

ترجمة: عصام الياسري

نشر موقع IPG قسم الاقتصاد وعلوم البيئة بتاريخ 27 تموز مقالا للكاتب "ستيفان لوكاس" تحت عنوان ((لا شيء يتدفق...)) جاء فيه: المياه في العراق تنفد، ويجف نهرا دجلة والفرات... هذا لا يزعزع استقرار البلد فحسب، بل المنطقة بأكملها.

عندما وقف ممثلو الأمم المتحدة أمام الميكروفونات في بغداد في أوائل يونيو 2023 للتعليق على الجفاف الحالي في العراق، لم يكن هناك سببا يدعو للتفاؤل. لأنه في حين أن ألمانيا وأوروبا الوسطى يئنان من وطأة موجات الحر التي بلغت هذا العام عند 30 إلى 34 درجة مئوية، فإن درجات الحرارة التي تزيد عن 50 درجة مئوية في جنوب العراق ونقص هطول الأمطار، يتسببان في انهيار المناظر الطبيعية والنظام البيئي للأهوار العراقية، والذي كان منذ القدم جوهرة "الهلال الخصيب" السابق. مناطق أخرى على طول نهري دجلة والفرات ستواجه تحديات هائلة: إذا استمر تغير المناخ كما هو الحال في عموم المنطقة، وتكون هناك عواصف رملية لأكثر من 300 يوم في السنة بحلول عام 2050. وفي الوقت نفسه، فإن التبخر وانخفاض تدفق المياه ونقص هطول الأمطار من شأنه أن تقلل القدرات المائية في جميع أنحاء البلاد إلى الحد الأدنى- مما يترتب على ذلك عواقب على سكان الريف والحضر. إذ سبق أن ألمح وزير البيئة العراقي جاسم الفلاحي منذ أكثر من عام وتوقع العلماء منذ سنوات للمنطقة، بان السيناريو أصبح الآن يتشكل بالفعل وسيؤثر أيضا على الدول المجاورة ومجتمع الدول الأوروبية في العقود المقبلة. ويصبح الحال في بلدان أخرى في الشرق الأدنى والأوسط كذلك، وستؤثر الظروف المناخية المتدهورة على الحياة اليومية لأجزاء كبيرة من السكان.

الحصول على المياه العذبة بشكل منظم أمر ضروري، إذ يشكل في الأصل الأساس لتطور الثقافات المتقدمة الأولى في ما يسمى بلاد "الهلال الخصيب". لكن الوصول إلى المياه بالتحديد يزداد صعوبة بالنسبة لملايين الناس. والسبب في ذلك عدد من العوامل التي لا يمكن للعراق التأثير فيها إلا بقدر محدود. ففي حين كان تدفق المياه العذبة في البلاد يتجاوز الـ 1350 مترا مكعبا في الثانية في بداية القرن العشرين، فقد انخفض اليوم إلى 149 مترا مكعبا فقط. فيما تجف العديد من المناطق بشكل متزايد وعلى وجه الخصوص، روافد الأنهار الكبرى دجلة والفرات وديالى. بالإضافة إلى قلة هطول الأمطار في المناطق الجبلية من البلاد، وتتحمل دولتا إيران وتركيا المسؤولية، لاستخدام المياه بشكل متزايد من خلال بناء السدود وأحواض التخزين الأخرى. تتعمد تركيا- التي يحصل العراق منها على ما يقرب من 70 بالمائة من مياهه العذبة- قبل كل شيء، ممارسة سياسة قمعية تجاه بغداد لأجل تأمين مصالحها الخاصة في شمال البلاد. على الرغم من حقيقة أن أنقرة وبغداد وقعتا بالفعل اتفاقية لزيادة تدفق المياه في عام 2021، لكنها لم تنفذ.

حقول الذرة الخصبة على طول الأنهار والمستنقعات الجنوبية أصبحت الآن أشبه بالصحراء. وتفاقمت بالفعل حالة التدفق المنخفض للمياه بسبب التبخر الهائل في البلاد. العراق، على سبيل المثال، يفقد 14.7 في المائة من المياه السطحية كل عام من خلال التبخر. بعض البحيرات مثل "حمرين" وهور أو بحيرة "أم البني" فقدت بالفعل أكثر من 50 في المائة من حجمها ومن المرجح أن تجف تماما في السنوات القليلة القادمة. نتيجة لذلك، تفقد في النهاية المجتمعات المحلية التي تعتمد أولا على الزراعة والمواشي، سبل عيشها، ويبقى الخيار الوحيد أمام الذين يعيشون في الريف لعدة قرون "الهجرة" إلى المدن الكبرى في البلاد، حيث يتعين عليهم العيش في ظروف محفوفة بالمخاطر، لكن النزوح الجبري من الريف للمدينة له أيضا عواقب.

مرة أخرى تتزايد درجة التحضر المرتفعة أصلا في المناطق الحضرية الكبيرة بالعراق بسبب المناخ: في عام 2021، كان 71.2 في المائة من السكان العراقيين يعيشون في مدن مثل بغداد والبصره والنجف والموصل. ونتيجة، إن الإدارات المحلية في العديد من الأماكن لم تسعى للحفاظ على البنية التحتية المتعثرة للمياه والكهرباء، تتزايد الأزمات السياسية الواحدة تلو الأخرى بشكل كبير. وفقا لوزارة الهجرة العراقية، غادر أكثر من 7000 مزارع وعائلاتهم المناطق الريفية في العام الماضي وحده. حيث تؤدي هذه التطورات إلى عبء أكبر بكثير على ميزانيات الدولة. ولا يمكن الحفاظ على أسعار المواد الغذائية والأسمدة المدعومة للسكان إلا إذا كانت الدولة تدعم هذه الأسعار وتضمن إستمرار واردات جديدة. إنما في أوقات التضخم والزيادة الهائلة في أسعار المواد الغذائية في الأسواق العالمية وسبل التوريد الضعيفة، يمكن أن تواجه الميزانيات الحكومية صعوبات خطيرة وتظهر تبعيات مالية جديدة. ولكن حتى إذا تمكن العراق من تحقيق الاستقرار في ميزانيته الخاصة بسبب ارتفاع أسعار النفط، فسيضطر في المستقبل إلى القيام باستثمارات ضخمة من أجل توفير حياة نوعية لسكانه، لكن ذلك لن يتحقق، لأنها، أي الاستثمارات، منخفضة بالأساس بسبب سوء التخطيط والسياسات الخاطئة للدولة وتفاقم الصراعات الحزبية لأجل المصالح الفئوية.

ونظرا لاستمرار درجات الحرارة لأسابيع وتجاوزها أحيانا 50 درجة مئوية، فأن العواصف الرملية التي تصاحبها موجات حرارة في المنطقة لا تؤدي إلى شل حركة النقل العام حسب، بل تؤدي أيضا إلى زيادة هائلة في أمراض الجهاز التنفسي، وتجعل معدل الوفيات بين الفئات السكانية الضعيفة وكبار السن في الازدياد أيضا.

في إطار ظروفه الخطيرة، سيكون العراق مستقبلا غير قادر على السيطرة بمفرده. لذلك من الضروري سعي الجهات المدنية والدولة في العراق في بناء القدرة على الصمود أمام التغيرات المناخية الجديدة، فبعد كل شيء، لا يمكن أن يكون انهيار العراق في مصلحة الجيران الإقليميين أو المجتمع الدولي. مما يقتضي تبادل المعرفة حول الاستخدام المستدام للمياه، يشمل ذلك أيضا، دعم المعرفة الفنية لمحطات معالجة مياه الصرف الصحي أو محطات معالجة المياه المتهرية. في الوقت نفسه، من الضروري على المستوى السياسي ضمان زيادة تدفق المياه في البلاد بشكل كبير، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال المبادرات السياسية في سياق الوساطة ودبلوماسية المياه. ولتحقيق هذه الغاية، يجب أيضا إنشاء وتعزيز قدرات جديدة بين الجهات الفاعلة الأوروبية القادرة على تقديم الدعم في الموقع مع سيناريوهات الاستشراف في سياق منع الأزمات، والتهيؤ لتنبؤات المناخ والطقس والإغاثة في حالات الكوارث. أخيرا، يجب المضي قدما في إعادة تأهيل البنية التحتية للمياه العراقية، والتي هي في حالة سيئة للغاية بسبب عقود من الإهمال وسوء الإدارة من قبل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين. وهنا أيضا، يمكن للجهات الفاعلة الأوروبية تقديم الدعم. مع ذلك، يجب على العراق دائما، إجراء استثمارات مستهدفة وذات صلة بالمشروع من أجل زيادة كفاءاته ومنع إساءة استخدام الأموال من قبل الجهات الفاعلة الأخرى في الدولة.

إذا لم يتم اتخاذ هذه الإجراءات من أجل العراق، فإن الهيكل الأمني الإقليمي وفوق الإقليمي سيواجه سيناريو قاتم بشكل واضح. من ناحية أخرى، يوفر فقدان سبل العيش لملايين الأشخاص أرضا خصبة للتوجهات الأصولية والمتطرفة، ولهذا السبب ستجد منظمات مثل داعش (الدولة الإسلامية) أو القاعدة مناطق تجنيد جديدة. من ناحية أخرى، فإن ضغط التحضر على المجتمعات المدنية قد يعني تحديات جديدة فيما يتعلق بالهجرة الداخلية. إذا لم تعد أنظمة المجتمع المدني قادرة على تحمل هذا الضغط، الذي يمكننا ملاحظته بالفعل في بعض الأماكن، فمن المرجح أن تظهر اتجاهات جديدة للهجرة- مع عواقب على مجتمعات الدول الأوروبية. لذلك ينبغي أن يكون من مصلحة جميع الجهات الفاعلة الوطنية والدولية الحد بشكل فعال من عواقب تغير المناخ التي بدأت بالفعل في الحدوث من أجل التمكن من إدارة التغيرات المناخية والمائية في العقود القادمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: حدثنا نور زهير!!

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

فشل المشروع الطائفي في العراق

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

 علي حسين إذا افترضا أن لا شيء في السياسة يحدث بالمصادفة، فإنه يفترض أن نوجه تحية كبيرة للذين يقفون وراء كوميديا نور زهير الساخرة ، فبعد أن خرج علينا صاحب سرقة القرن بكامل...
علي حسين

باليت المدى: الرجل الذي جعلني سعيداً

 ستار كاووش كل إبداع يحتاج الى شيء من الجنون، وحين يمتزج هذا الجنون ببعض الخيال فستكون النتيجة مذهلة. كما فعل الفنان جاي برونيه الذي أثبتَ ان الفن الجميل ينبع من روح الانسان، والابداع...
ستار كاووش

صحيفة بريطانية: قائد اركان الجيش الأمريكي يزور دولتين عربيتين لاقامة "تحالف" ضد ايران

متابعة/ المدى كشفت صحيفة تريبيون البريطانية، اليوم السبت، عن وصول قائد اركان الجيش الأمريكي الجرنال سي كي براون بزيارة غير معلنة الى الأردن لبحث إقامة "تحالف إقليمي" لحماية إسرائيل.  وذكرت الصحيفة، ان القائد الأمريكي...

كلاكيت: ألان ديلون منحه الطليان شهرته وأهملته هوليوود

 علاء المفرجي في منتصف السبعينيات شاهدت فيلمه (رجلان في مأزق) وهو الاسم التجاري له، في سينما النجوم في بغداد، وكان من إخراج خوسيه جيوفاني، ولا يمكن لي أن انسى المشهد الذي يوقظه فيه فجرا...
علاء المفرجي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram